بالصدى .. من أجل دفء حقوقي وإنساني مستمرين
وحيد مبارك
مع مطلع السنة الجارية 2024، وتحديدا يوم الأربعاء 3 من شهر يناير، تم العثور على جثة شخص على مستوى مدارة عين مزوار بمراكش. وفي 19 من شهر دجنبر وبمدينة بتطوان، وُجد شخص ميتا في أحد الحدائق العامة. أما في شهر نونبر الفارط، فقد فارق الحياة شخص سبعيني بالقصر الكبير، بعد نقله في وضعية صحية حرجة إلى المستشفى حيث لفظ أنفاسه الأخيرة هناك. وقبل ذلك بحوالي شهر، تم العثور على جثة شخص في وضعية تحلل متقدمة بمرتيل. وفي شهر يوليوز من نفس السنة، 2023، فارق الحياة شخص في الستينات من عمره، بإحدى مناطق زاكورة.
أشخاص مختلفين في مناطق متباعدة، والنتيجة واحدة هي الموت، بعد «حياة» كان عنوانها وقاسمها المشترك، الشارع والتشرد. حياة، وجد عدد من المواطنين من فئات عمرية مختلفة أنفسهم يعيشون تفاصيلها المؤلمة، بسبب دوافع مختلفة، جعلتهم يعانون ألما ممتدا في الزمن وعزلة قاهرة على كل المستويات، تتقاذفهم الدروب، تتعقبهم النظرات، التي تكون ذات وقع حادّ أكثر من الكلمات في كثير من المرّات، لمواطنين بعضهم قد يشفق عليهم ويمدّ لهم مساعدة عابرة، وبعضهم قد يزيدهم بسلوك ما ألما فوق الألم.
مشرّدون، قد لا ينتبه إليهم الكثير من الناس، قد نمر بمحاذاتهم بشكل عادٍ وهم نيام على الرصيف في زاوية من الزوايا، بعضهم يتكوّم داخل بطانيات وألحفة، قد لا يعتقد بعض المارة وهم يشاهدونها أن الأمر يتعلق بإنسان يتواجد بداخلها، فقد يخالون المشهد مجرد كومة من «المتلاشيات المنزلية»، لكن الحقيقة أن بداخلها يوجد أشخاص، قد يكونون صغارا في السن أو كبارا، إناثا أو ذكورا، يبحثون من خلال هذه الوضعيات المختلفة عن بعض الدفء في مواجهة مناخ قاس ببرد قارس.
أشخاص بدون مأوى، منهم من لا يجد إلا «الكرطون» يفترش به الأرض ملتحفا السماء، والبعض الآخر يبحث له عن مكان وسط الشاحنات والحافلات المركونة في الشارع العام، وعلى مستوى القناطر، وبجنبات المحطات الطرقية المختلفة، وفئة أخرى تفضّل الدور والمستودعات المهجورة، وبعض أوراش البناء المتوقفة، المحتضنة لـ «بيوت العمال» الذين غادروها يوما لسبب من الأسباب، أو لـ «كونتونيرات» كانت عبارة عن فضاءات لـ «الإيواء».
«حاويات» يضع عدد من المشردين اليد عليها، فتتحول في لحظة من اللحظات إلى مقبرة لهم، فكثيرة هي الحالات التي تم العثور خلالها على بعضهم بداخلها، وهم في وضعية احتراق كامل بعد أن اندلعت النيران في أجسامهم، وهم يشعلون نارا، بحثا عن دفء، تنسيهم «نعومته» كل الخطورة، وهم يقبلون بنهم على جرعات كحول حارق، فيستسلمون للنوم، أو لوضعيات ضعف ووهن، فتسلم أجسادهم الروح خلالها لبارئها.
واقع، يعانيه الجميع، أطفال وطفلات، يافعون ويافعات، شباب، شيوخ، ومشردون من كل الأعمار، الذي أصبحت المشاهد التي تتعلق بهم في أعيننا «اعتيادية»، ولا توخز ضمير بعضنا إلا عند الوقوف على حالة وفاة مأساوية، بل أن الحديث عنهم لا يتحرك إلا عند البرد، حيث تشرع وحدات المساعدة الاجتماعية في مناسبات بعينها في تجميع من وصلت إليهم لتصطحبهم إلى دور، تعاني أصلا من الندرة والاكتظاظ ومن ضعف على أكثر من مستوى، فتتحول بذلك الزيارة لها إلى لحظة عابرة ومؤقتة لا تتسم بالديمومة، الأمر الذي يجعلهم يعودون للشارع في أقصر مدة، أما الذين يعانون من اختلالات عقلية نفسية، فأولئك لا يفارقونه ويمكثون به في ظل إشكال كبير يعرفه التكفل بهذه الفئة؟
مشردون، مواطنون، رمت بهم الأقدار إلى الشارع، يحتاجون إلى سياسات عمومية حقيقية، تصون حقوقهم الدستورية وتضمن استفادتهم منها، تفعيلا للفصل 20 المتعلق بالحق في الحياة، مرورا بالفصل 21 الذي ينص على الحق في السلامة، والفصل 22 الذي يؤكد على عدم المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، وبعدم معاملة الأشخاص معاملة قاسية ولا إنسانية ومهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية، وصولا للفصل 31 الذي ينص على تعبئة كل الوسائل المتاحة للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لضمان الحق في العلاج والعناية الصحية، والحماية الاجتماعية، والتغطية الصحية، دون إغفال نصوص أخرى بنفس الحمولات الحقوقية.
إن الدفء المنشود، الذي يرغب فيه المعنيون ومعهم من يهتمون بالظاهرة ويتتبعون تفاصيلها، هو دفء حقوقي بالأساس، يريدونه أن يستلهم روحه وفلسفته من دستور المملكة، ودفء إنساني، تتجسد فيه كل معاني قيم التضامن والنبل، من طرف الأفراد والمؤسسات على حد سواء، لنكون جميعا أمام دفء حقيقي يبعث على الإطمئنان والراحة ويزرع السكينة، يتّسم بالاستمرارية لا أن يكون مناسباتيا، يرتبط بظرفية البرد العابرة فقط، التي ستمرّ بكل تأكيد، لكنها ستترك جراحا خلفها، لا تندمل ندوبها بـ «سرعة»، بحيث يضمن الكرامة لهذه الفئة، حتى تعيش في أجواء يتوفر فيها الحدّ الأدنى من الرعاية والاحتضان، ويحميها من قساوة ما يحيط بها ويقيها من سلوكات ذاتية، قد تحدث عن وعي أو غير وعي، التي قد تسبب الأذى للذات أو للغير، أو لهما معا، في لحظة من اللحظات العابرة…
الكاتب : وحيد مبارك - بتاريخ : 09/01/2024