بعد أن فُزنا، كيف نُدبِّر فرَحَ الشعوب لغدٍ فرِح

أحمد المديني

 

ليست الحروبُ مع النزاعاتِ الدولية وحدهما مجالَ ظهور وتنافس الخبراء والمحللين الاستراتيجيين، طبعا، بعد واضعي الخطط من الجنرالات والفرق العسكرية وعتادها الحاسم، ففي عالمنا الحديث والمعاصر خاصة الذي تمَّ فيه تسليعُ كلِّ شيء الإنسان أوَّلُه، وأصبح الإعلام بأشكالٍ وألوان وصيَغ تكنولوجية متفوقة وأخرى صاعقة وكاذبة ملفقة، تكاثرَ المحللون وأصحابُ الرأي والفراسةِ ومُنزلو الفتاوَى في الصغيرة والكبيرة، ولم نعد قادرين على حصر مراكز الخبرات والدراسات الاستراتيجية غطّى المُزوَّر والطفيليّ والمنتحلُ فيها على الجدّي والرّصين المختص، بحق. ومع ما تتيحه تكنولوجيا المعلومات انتبذ كلُّ ذي نزوة وفكرة طائشة موقعا باسمه أو يمتطي سرج غيره فيصهل بما يشاء يُشرِّح ويُملّح الناس والأرض والسماء ديدنُه التلفيق والهتاف حسب العطاء والإفراط في التقوّل ليتفوق أخيرا في قلة الحياء.
حين يشتعل أوار الحرب الطاحنة لكرة القدم، وأشدّها ضَروسا ما نشهد أيامنا هذه مع جولات مباريات كأس العالم الجارية في قطر، يمكنك أن تتحدث عن جامعات وأكاديميات ومنتديات تتدافع فيها الأطروحاتُ وتتضارب الفرَضياتُ كلُّ ركن وزاوية ومخ سويٍّ ومقلوب صار» أغورا» يونانية جديدة للمطارحات والاقتراحات، بل التوجيه مطلقا لكيف يجب أن تلعب المباريات وهذه خطط اللاعبين كما يجب أن يلعبوا لا ما يخطط له المدربون، حال أذهل من الجنون ما يتبارى في اقتراحه عباقرة فائضون عن زمن العقل والحكمة ومتفرّجون مهووسون. هذا بعض أمراض الوقت وعندنا خصوصا، أن يحشر الفائضون أنوفهم في ما هو أكبر منهم، ويتكاثر الطفيليون حول موائد نُصبت لغيرهم ولا يأنفون أن يكونوا فيها ذبابا المهم ليقال إنهم حاضرون، الصورة والبروز بالتبرّج أضحت صانعة الكيان، اكتب ما شئت، المهم هو التّيهان!
كنتُ سباّقا إلى التغريد بنشيد الفرح، بالحقّ فيه، بضرورته. من لا يعرف الفرح، البهجة، كيف يضحك ويبتسم ويطلق أساريره وينشرح ويتسلّى ويرقص إذا قامت الجدبة، من يعاقر الكآبة وتَسوَدُّ في عينيه الدنيا يغتاظ لِمَ السماء مشرقةٌ والأفق ملءُالضياء، والخلق يمرحون وهو في شقاء؛ مَن هكذا وكثيرون هكذا جديرون بالعزل ولن نقتادهم بالقوة إلى المصحات النفسية، يكفي أنهم يعاقبون أنفسهم بالمرارة والاكتئاب. لستُ مثاليا ولا بطرا متعالياً عن أحوال الناس، نعم، ما الفرح مطرٌ يهطل ولا نبعٌ يتفجر وحده، له شروطه وظروفه، من يملك ليس كالمعدِم، المُعوْز، المحروم، المعذّب في الأرض مع تصاريف العيش والأيام وليس المكتفي رخيَّ البال، وعبثا نفكر أن القمر يضيء لجميع الخلق وهم ليسوا سواسية في الرزق والحظوظ، رغم أن الفقراء يكابرون وبكأس شاي وخبز حافّ يتمازحون والراعي يعزف على قصب أعذب لحن.
في غمرة أوقات وأجواء (المونديال) لاحظتم جميعا بل وانخرطتم أغلبكم، والمكتئبون أيضا، جرفتهم موجة متابعة المباريات، والوطنية منها بالذات، العيون والقلوب تنظر وتنبض بقلب لعب وأهداف المنتخب الوطني، وفي كل لعبة كأن مصير التاريخ الوطني يُحسَم معها، وكما قرأت عند المتحمسين، في عناوين الصحف ولدى أصحاب المواقع هذه العبارة تغاضيت عن تأويلها ولم أقبل لنفسي أن أصبح رقيباً على مشاعر الجمهور بل وحماس وطن كامل وضع أبناؤه مصيرَهم كلَّه بين أقدام كرة تتسلل بين الأقدام وتقذفها فإن أصابت المرمى حققت المعجزة. كلاّ، لن أنضم إلى جوقة المتفلسفين، ما يجمع القلوب، من طنجة إلى الكويرة، ويلمُّ أطراف الخريطة العربية هتاف واحد وتخيب آمال الكارهين: عاش المغرب ممثل العرب.الفرح والحزن شعوران جليلان، ورغم تناقضهما هما ذروة ما يرتقي ويعبّر بهما الإنسان. لذلك مهما أغدقنا فيهما من عاطفة وقلنا من كلام نبقى دون علوِّ الموج العاتي والألم القاسي، وفي المقامين ننسى، نغرق، نغرق، ونتنفس تحت الماء، ومع الفرح خصوصا فنحن الهذيان!
أقول قولي هذا وأسمح لنفسي بالتدّبر في أمرين، أُخرج رأسي من عمق الغبطة التي سرت في دماء شعوب بأكملها وهي ترى أبناء من سلالتها وعقيدتها وأنفاسها الساخنة يحققون لها بعض فوز رأوه كالحلم ومن شدة ندرته تظنهم يعيشون في خيال لا يصدقون. هما أمران لا بد من المصارحة بهما: أولهما، أن هذا الانفجار من الأفراح، المُدوِّي بمناسبة رياضية عابرة، من أسبابه ودواعيه النقصان المفرط حد العدم عند شعوبنا العربية من نصيب وحق العيش مثل غيرها وأفضل منها بقدر معقول وإنساني من المبهج، من السعادة، مما يفرّج كرب النفوس ويقلل من حجم الضيم والمظالم. لا أحب التفرقة بين الناس في المشاعر، ولا احتكار طبقة اجتماعية لها ولحب الأوطان، لكني أزعم وبقدر ما تتبعت وعلمت أن البسطاء منهم كانوا وما زالوا الدم الفوّار لهذه البهجة الأشدّ تماهياً بها جرفتهم في بحرها أقصى مُناهم أن تدوم حتى وهي عابرة، وإذن، بقدر فيض الفرح هذا بقدر فائض غيابه في المعيش والدواخل؛ لَبُّوه لهم!
الأمر الثاني، في بلادنا، كما في باقي البلدان العربية التي شاركت المغرب والمغاربة فوزهم المتوالي في تنافس رياضي عالمي ووجدوا في أبطالنا رمزا لأمة كاملة وحاجتها إلى انتزاع بطولات وانتصارات مجهضة؛ أن الحكام وأولي الأمر في هذه البلدان وهم كلهم شاهدوا بأم العين، وهتفوا وابتهجوا بسعادة مع الجموع، يوجدون اليوم، وبعد أن يبرَد» وطيس المعركة» في موقف صعب بل حرج، أو عليهم أن يشعروا بأن غدا لا يمكن أن يبقى كأمس، عليهم تدبير هذا الفرح، وهم يملكون الوسائل لتحقيق الحاجات والآمال التي تطمح لها الشعوب، وقد تأجّجت نارا بتفانيها في الانتماء للوطن، وأعطت للوطنية أسمى معانيها سمَت بها أحيانا ذروة صوفية. في الداخل المغربي جاءت مباهجُ الفوز في لعبة رياضية بقيمة عالمية لتُقوّي لحمة وطنية وتمتن وتجدد هوية وانتماء. وفي باقي البلدان العربية التي نحن جزء منها ومشدودون لمصيرها بألف آصرة ولو كره الكارهون، أحيت روحا ونفخت في جمرٍ لم ينطفئ كامن تحت رماد اليأس، وبعثت أمة قيل ماتت وتكالب عليها العُداة والهوان حتى عُدّت طويت في خبر كان.
أجل، المغاربة جميعا والعرب أجمع طفح فرحهم لكن هناك ما هو أكبرُ وأعسرُ طفح كيلُه، فماذا لو اعتدلت كفتا الميزان، ماذا لو أصبحنا شعوبا، بشرا، أفرادا قادرين على البهجة دائما بقدر الإمكان، لا أن تمضي أعمارنا في انتظار دورات منافسات وألعاب ومهرجانات، قد نربح فيها أو نخسر ونفجر المكبوت ثم ننسى إن نسينا وإنما نعود نداري أحزاننا ونكتوي بالحُرقات. أجل، هتافنا شقّ عنان السماء، والنجوم غارت من شدة ما أضاءت عيوننا ليال كالحات، بيد أن هذا لا يكفي أيها السادة الذين يسهرون على تفادي الفوضى بسبب حماس مفرط للجمهور لا يتسع صدره لنصر عابر، فماذا لو حجّ دائما إلى ملاعب الحياة بثقة لنصر مضمون وآمن.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 14/12/2022