بقايا من زمن نهاياتنا، ومن جرح الغياب

أحمد المديني
1
نحن في نهايات عام بعد أيام، وهو وقت يفترض أن يستدعي من الجميع، أفرادا ومؤسسات وحكومات وهيئات وكل من له مسؤولية عن نفسه ووعي بحاله، وقفة تأمل وجرد حساب.
هي دقيقة حين يلتقي عقربان تنطوي معها أعمار وتفتح في كتاب الحياة صفحات جديدة، وسواء فرحنا أو غمّنا الحزن فهي لا تنتظرنا. تمضي تترك الغافلين في سبات وعيشهم فلاة.
2
لكي ننتبه إلى هذا، وإلى إدراك معناه، نحتاج لحساب المسافة بين نقطة البدء والأقصى. أين نحن، وإلى أين نريد أن نصل، فلا ينسرب الوقت ونحن عُميان شبه عديمي إحساس، وهذا حالُ مشاة في الطرقات ذهابا وإيابا، تحسبهم بلا مكان وبدون عنوان وهم فعلا يتحركون في مساحة مؤقتة، وإن جلسوا يختلط في نفوسهم إحساس بين العدم والخيبة وطول انتظار.
3
في محاضرته الختامية العام الماضي بالكوليج دوفرانس وقد أراد أن يتوّجها بدرس حقيقي كما يفعل الأساتذة الكبار اختار البروفيسور أنطوان كومبانيون موضوع النهايات، المنسجم مع مغادرته بسبب سن التقاعد، سماه: Gagner la sortie ومنه تبلورت سلسلة أفكار وفصول ضمها كتابه الجامع الأخير» الحياة وراءنا، نهايات الأدب»(إكواتور 2021). عديدة تأملات وأطروحات الكتاب، يستوقفك أوّلُها بتنوع معنى النهاية كما تحمله المفردة الفرنسية ومرادفاتها، وبذلك، باختصار، لا تعني خاتمة الشيء بل منتهاه ومقصده والتخوم والحدود، وعند كل استعمال ولدى السياق نحصل على معنى هو حبة في عنقود يسمى نهايات لا تنفد، وليست بالبداهة التي نتصور، لذلك يحفل تاريخ الأدب، والفن، والفكر، بنماذج بلا حصر للنهاية، وكل مسار إنسان ومشروع إبداع وخلاصة تجربة تمثل نهاية حياة وأسلوب كتابة، النهاية ليست الخسران بتاتا، يمكن أن تكون مشروع بداية وتحول لما سبقها. نهاية بروست قادت إلى جويس الذي قاد إلى كافكا. أي مفارقة هذه التي أظهرت بودلير يدشن الشعر الحديث ينتهي وحيدا وخائبا، ولكنه لم يمت لأنه أصبح كلاسيكيا تقرأه الأجيال في المدارس، وكلما صارت السماء في باريس رصاصية جاثمة فكأني أستعيد مشاعره ولا أجد أفضل من قصيدته Spleen de Paris النموذج الأقوى لقصيدة النثر التي أفسدها دخلاء يتخبطون بين النوعين.
4
لا أحد يرغب في النهاية، ولتكن ذروة. في مجده قال سارتر:» ماذا أستطيع أن أفعل غير هذا» يعني الكتابة. وبعده اعتنقت ناتالي ساروت سيدة الرواية الفرنسية الجديدة وقد بلغت من العمر عتيا الرأي ذاته: «ماذا يمكن أن تفعل بحياتك غير هذا؟!». بالطبع، حين تكون الكتابة عماد حياة لا تزجية لفراغ وخلواً من رؤية مختمرة للوجود، أي ضرورة تربط الكائن به وقوله من صميمه، فإن عدمت انعدَم عنده مبررُ البقاء، وإن ظل الجسدُ حيا. ما حدث للفيلسوف الوجودي حين فقد البصر وتغير مسار حياته كليا. وإني لأبحث عن هذا في صف الأدباء والمفكرين العرب، والسياسيين، أيضا، فأرى هؤلاء كأنما يتقاعدون قبل الأوان وتنطفئ عندهم مبكراً حرقة السؤال، لا سيما الساعين وراء المال والجاه صاروا سدنة و» كلاب حراسة» وأبواقا، أو يلهثون وراء أي جائزة ما هَمَّ تخصهم أم لا، حلال أم حرام ولا من مانحها في مأدبة اللئام. أستثني قلة لا يقاس عليها كيلا أظلم الناس، عاشرت منها اثنين فريدين محمد عابد الجابري وعبد الرحمان منيف، واحد في الفكر والثاني في الرواية، ويجمع بينهما الإخلاص للمبدأ حتى الرمق الأخير، فكأن الموت اختارهما أو استسلما طواعية وهما يريان وصولنا إلى القاع.
5
إن الفراغ بعضُ ما يُرى في هذا القاع. ربما لأني تباعدت أستغرب له، فلا يتهمنّني أحدٌ بالاستعلاء. أمرّ بأرصفة الشوارع وحتى في أضيق الأزقة أراها مفروشة بالمقاهي والبشر جلوس في سائر الأيام، منهم منصرفون إلى اللغو، وكثيرٌ ينظرون، بل يحدقون في شيء ما، أقيس المسافة نحوه لأقع عليه، لأقبضه، ها، فأمسك بالفراغ، أسقط في القاع. هي النهاية حقا. أتذكر للتو قصة لشاتوبريان» المغامرة الأخيرة لبني سراج: نشرت سنة 1826 يرسم فيها كيف أن رجالا من إفريقيا وبلاد الإغريق تراهم جالسين وقتا طويلا بلا صنيع، وخلال ساعات تحرك أصابعهم سبحة بدون أي تفكير، أي بعيدا عن الهدف الديني. من صورة هذه السّبحة يميز بارت ما يسميه» الشعار النشيط ل كيف لا تفعل شيئا» لأنه يكشف عن(والو)، يشهر البطالة. يعزز بارت الذي أقام وقتا بالرباط أستاذا بكلية الآداب هذا المشهد بلقطة مغربية وقد أسبغ عليها هالة بودية بصورة:» جالسا لا يفعل شيئا/ يأتي الربيع والعشب ينمو وحده» يحكي أنه رأى في طريق مرّ به طفلا جالساً على حافة جدار، طفلا لا عجوزا كما عند شاتوبريان، يمثل في نظره اللا انشغال التام، هذا الطفل القاعد هنا إلى الأبد في اللا وجود، أقول العدم.
6
مرت ستة وأربعون عاما بالحساب الفلكي، وثوان بحساب نبض القلب، وأنت تفترش دمك في شارع كميل دي مولان، زمن سبعينيات الدار البيضاء الهادرة. طعنةٌ إلى قلبك وطعنات انغرست في جسد المغرب فسجيتما معا في أرض الشهداء، لم أكف منذئذ عن الصراخ، عن البكاء، وأهتف باسمك مع كل نداء. طعنةٌ نجلاء قتلت عمر بن جلون سيّد الرجال نبيّ الشهداء. مذذاك لجميع الناس لقب ما، كُنية في دفتر الحالة المدنية وبطاقة التعريف الوطنية، ووحده حاز شرف جليل الأسماء، عاش وحيداً فأنقذته الإرادة من غربته ليجاور رفيقه المهدي في السماء. زرت الجريدة بعد ذلك بأعوام فوجدت صورته مرمية بين قدمي صحفي مدسوس يتهجّي كلام النضال، فانغرست الطعنة من جديد في قلبي وسألت المناضل اللقيط هل آخذها، فدفعها إليّ بقدم جرباء وهو ينفث حقد حية رقطاء، أسندت الصورة إلى صدري غسلت الوجه بماء العين وكفنته كله بالأهداب. وها أنا بعد عقود أطوف بدمه وأسأل إلى متى دم الشهيد مهدور، وتبقى جثة المهدي بلا قبر تشكو البرد في العراء؟!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 22/12/2021