بني ملال.. خزان الثروة ومقبرة التنمية

أيوب الهاشمي

 

من ينظر إلى جهة بني ملال–خنيفرة من بعيد، قد يظن أنه أمام جنة فوق الأرض: جبال شامخة، سهول شاسعة، مياه وفيرة، وأراضٍ فلاحية معطاءة. هذه الجهة تعتبر القلب النابض للزراعة الوطنية، حيث تنتج أكثر من 40% من الشمندر السكري الوطني، وتحتضن أزيد من 120 ألف هكتار من الزيتون، فضلاً عن آلاف الهكتارات من الحوامض والحبوب. أضف إلى ذلك أن أرضها تخفي في جوفها ثروات من الفوسفات، الذي يشكل ركيزة أساسية لصادرات المغرب ومداخيله من العملة الصعبة، بالإضافة إلى مؤهلات سياحية جبلية قد تجعل منها وجهة وطنية ودولية خاصة أنها تقع بين مراكش وفاس ورغم هذا الغنى، يعيش المواطن البسيط في الدواوير والقرى حياة لا تعكس إطلاقاً هذه الوفرة.
في لغة الأرقام الرسمية، نسبة الفقر بالجهة تصل إلى 17%، أي ما يقارب ضعف المعدل الوطني. هذا يعني أن أسراً بأكملها تعيش تحت خط الفقر في منطقة تزود موائد المغاربة بالسكر والزيتون والحوامض و تزود العالم بالفوسفات . أي مفارقة أكبر من أن تكون الأرض غنية والإنسان فقيراً؟ إننا أمام نموذج صارخ لـ”خزان للثروة و مقبرة للتنمية”، حيث تتحول الثروات إلى أرقام في التقارير الوطنية، بينما يبقى سكانها أسرى التهميش.
أما البطالة، خاصة بين الشباب، فتصل إلى 20%، لتكشف أن هذه الجهة التي يفترض أن تكون قاطرة للتشغيل بفضل فلاحتها وصناعتها، عاجزة حتى عن منح أبنائها فرصاً تحفظ لهم كرامتهم ليكون شبابها اليوم من بين أكثر جهات الوطن من يرمي بنفسه في قوارب الموت، ومن يهيم في شوارع المدن الكبرى باحثاً عن لقمة عيش. فهل هذه هي الجهة التي يتغنى المسؤولون بقدراتها الاستثمارية؟ وبتاريخها الكبير في الدفاع عن بلد اسمه المغرب في تاريخه القديم والحديث .
وإذا انتقلنا إلى قطاع الصحة، فالمشهد أكثر قتامة: 8 أطباء فقط لكل 100 ألف نسمة، مقابل معدل وطني يقارب 14. أي أن المواطن في بني ملال يحتاج إلى معجزة كي يجد طبيباً قريباً منه. المستشفيات قليلة، البنيات التحتية الصحية مهترئة، والمرضى يتنقلون مئات الكيلومترات لمجرد إجراء فحص بسيط. فأي تنمية يمكن أن نتحدث عنها إذا كان العلاج نفسه ترفاً لا يناله إلا من استطاع السفر مئات الكيلومترات أو دفع ثمنه؟
أما التعليم، فالوضع ليس أفضل حالاً: نسب الأمية والهدر المدرسي تفوق 30% في القرى. أطفال الجهة، بدل أن يحملوا كتبهم ودفاترهم، يجدون أنفسهم مرغمين على حمل المحراث أو البحث عن عمل موسمي في الضيعات أو زبناء محتملين لتجار قوارب الموت. وهكذا يعاد إنتاج الفقر جيلاً بعد جيل، بينما تظل شعارات “تعميم التعليم” مجرد كلام على ورق.

إن المقارنة بين ثروات الجهة ووضعها الاجتماعي تكاد تكون مادة جاهزة للمسرحيات والروايات الساخرة. هنا أرض تفيض زيتوناً، بينما القرى تغرق في الفقر. هنا آلاف الهكتارات من الحبوب، بينما الأسر لا تضمن خبز يومها. هنا الفوسفات الذي تلمع به تقارير الدولة في الخارج، بينما يئن سكان مناجمه من غياب أبسط مقومات العيش الكريم. حقاً، إنها معادلة يصعب فهمها: ثروة في الأرض وبؤس في البيوت.
خطاب جلالة الملك الأخير كان واضحاً حين أكد أن المغرب يسير بسرعتين: جهات تنعم بمشاريع كبرى وبنيات تحتية حديثة، وجهات أخرى لا تزال عالقة في دهاليز التهميش. وبني ملال–خنيفرة، بكل هذه المؤشرات، تجسد الوجه المؤلم للمغرب البطيء، المغرب الذي يقف على هامش التنمية رغم أنه يمدّ البلاد بمواردها الحيوية.
المسيرات التي تعرفها دواوير الجهة ليست سوى صرخة طبيعية في وجه هذا التناقض الفج. كيف يُطلب من الناس الصبر، وهم يشاهدون ثروات أرضهم تغادر في الشاحنات إلى مصانع السكر وموانئ التصدير، بينما تعود إليهم على شكل فتات؟ كيف يُقنع المسؤول الفلاح الصغير الذي يغرق في الديون بأن “التنمية قادمة”، فيما لا يجد ماء صالحاً للشرب أو طريقاً معبداً لوصول أطفاله إلى المدرسة؟
إن الحكومة اليوم مطالبة بأن تواجه هذا الواقع بشجاعة، لا أن تكتفي بتكرار وعودها في الخطب والبرامج الورقية. جهة بني ملال–خنيفرة لا تحتاج إلى المزيد من الدراسات واللجان، بل إلى قرارات ملموسة: استثمارات في الصحة والتعليم، خلق فرص عمل للشباب، وبنية تحتية تليق بمقام “خزان الثروة”. أما الاستمرار في سياسة التسويف، فلن يؤدي إلا إلى المزيد من المسيرات والاحتقان، وقد آن الأوان لكي تفهم الحكومة أن صبر الناس له حدود.

الكاتب : أيوب الهاشمي - بتاريخ : 11/09/2025