بين إضعاف المؤسسات الدستورية ونداء المعارضة الاتحادية

د.محمد السوعلي *

عرفت الساحة السياسية والتنموية، خلال الفترة الأخيرة ببلادنا، اتجاهين متناقضين لابد من التأكيد عليهما لفهم المشهد السياسي وما يعتريه من مفارقات قلما وجدنا مثيلاتها في المنظومات السياسية الحديثة.
فمن جهة يلاحظ المتتبع للشأن السياسي الداخلي أن الحكومة اتخذت منحى يصب في إضعاف المؤسسات وتهميش المعارضة الدستورية وإثقال كاهل المواطنات والمواطنين وإضعاف قدرتهم الشرائية والتطبيع على نحو ما مع قيم الفساد والرشوة والريع والزبونية ضاربة بعرض الحائط ما التزمت به من إصلاحات هيكلية ومجتمعية. نفس المتتبع يسجل أن المعارضة البرلمانية وفي مقدمتها المعارضة الاتحادية وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يتوقف عن تنبيه حكومة التغول إلى خطورة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تظهر ملامحه بجلاء في حياة العديد من الفئات الفقيرة وحتى المتوسطة، حيث اتسعت مظاهر التهميش، وتعمقت الفوارق الاجتماعية والمجالية، في غياب استراتيجية ناجعة للتخفيف من هذه الأوضاع، مما أدى إلى خروج المواطنات والمواطنين للاحتجاج في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة … في السنوات الأخيرة.
إن برلمان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كما جاء في بيان اجتماعه الأخير، ومن موقع المعارضة المسؤولة نبه أكثر من مرة “إلى العديد من الأعطاب التي تكتنف التجربة الحكومية الحالية على مستويات عديدة، مما أدى إلى تفاقم الغلاء الذي هم معظم السلع الأساسية، وسط عجز حكومي عن مراقبة حركية الأسواق، ومحاربة كل أشكال الاحتكار، وفشل في التدخل لحماية جيوب المواطنات والمواطنين. فحكومة “الغلاء والتهميش” اجتهدت في رهن مصالح المواطنات والمواطنين بصراعاتها الهامشية داخل الأغلبية أو داخل أحزابها، متجاهلة تحمل مسؤولياتها لمعالجة الوضع في ما تبقى من مدة انتدابها.
ونحن في منتصف ولاية هذه الحكومة التي لم تحسن تنزيل المشاريع المهيكلة التي أعطى انطلاقتها عاهل البلاد، وتفعيلا للمقتضيات الدستورية التي تعطي للمعارضة البرلمانية تصحيح الوضع في البلاد، باتخاذ خطوات استراتيجية وفعّالة صادق عليها المؤتمر الوطني الحادي عشر والمجالس الوطنية للحزب وجهاز المكتب السياسي وكاتبه الأول الأستاذ إدريس لشكر في مناسبات عديدة.

لقد حان الوقت لفتح نقاش مسؤول حول الإصلاحات التي كان من المفترض القيام بها في النصف الأول من ولاية الأغلبية الحكومية، والاتحاد الاشتراكي منفتح على كل مقتضى يضمن التنزيل الأمثل للإصلاحات المعطلة: ورش الحماية الاجتماعية، مدونة الانتخابات، المنظومة الإعلامية، وكالة الدعم الاجتماعي، السياسة المائية والفلاحية، وغيرها من الأوراش التي تنتظر إلى ما لا نهاية لإخراجها للوجود.
ففي خطاب اتسم بالجرأة والوضوح والمسؤولية، أكد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في اللقاء الجماهيري الحاشد بمدينة تطوان على أن ينصب الإصلاح بالأساس على تخليق الحياة السياسية، وإعمال قواعد الحكامة وتقوية الجبهة الوطنية، وهذا لن يتأتى إلا برسم خطة عمل واضحة ومحددة، تستند إلى الحوار الهادف والمشاركة الإيجابية من كافة الأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية في الساحة السياسية الوطنية.
خارطة طريق حزب القوات الشعبية لتعزيز الرقابة البرلمانية وبناء جبهة متماسكة ضد سياسة حكومة التغول
المطلوب من حزبنا في السياق الحالي تعزيز تنظيماته المحلية والإقليمية والوطنية وتنسيق جهوده لتشكيل جبهة داخلية متماسكة ضد السياسات الحكومية الفاشلة ولإرساء قنوات للتواصل وتشجيع التفاعل مع المواطنين لشرح رؤية الحزب والحلول التي يقترحها للتغلب على المشكلات القائمة بفعل التغول، والاستثمار في وسائل الإعلام والمنصات الرقمية لنشر برنامجه الآني والمستقبلي وكذا البدائل العملية القابلة للتنفيذ لتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمواطنات والمواطنين. وهذه بعض الاقتراحات العملية التي يمكن لمناضلي الاتحاد الاشتراكي وأجهزته اتباعها لتحسين الوضع القائم.
* أولا: الرقابة والمساءلة البرلمانية لعمل الحكومة في قضايا ذات البعد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتي تهم المواطنين بصفة مباشرة كالتعليم والصحة والتشغيل والحماية الاجتماعية وتوفير الماء والتطهير….إن الفصل 10 من الدستور «يضمن للمعارضة البرلمانية مكانة تخولها حقوقا، من شأنها تمكينها من النهوض بمهامها، على الوجه الأكمل، في العمل البرلماني والحياة السياسية.» ويضمن الدستور، بصفة خاصة، للمعارضة المشاركة الفعلية في مسطرة التشريع، لاسيما عن طريق تقديم مقترحات قوانين بجدول أعمال مجلسي البرلمان؛ والمشاركة الفعلية في مراقبة العمل الحكومي، لاسيما عن طريق ملتمس الرقابة، ومساءلة الحكومة، والأسئلة الشفوية الموجهة للحكومة، واللجان النيابية لتقصي الحقائق؛ …
فاللجوء إلى هاته الآليات الدستورية يسمح للمعارضة الاتحادية في مجلس النواب بالتعبير عن عدم الثقة والارتياح لما تراكمه «الحكومة الثلاثية الأطراف» من أخطاء فادحة في حق الشعب المغربي. لذا يشكل ملتمس الرقابة ورقة ضغط تسمح للمعارضة في البرلمان بإظهار اختلافهم مع سياسات الحكومة ومع طريقة إدارة هاته الأخيرة للشؤون العامة للبلاد.
وحتى لو لم يؤد ملتمس الرقابة إلى إسقاط الحكومة، كما هو الحال في المحاولتين السابقتين، فإنه سيفضح إخفاقات الحكومة ويسهم في إظهار الاختلاف ويحفز النقاش العام الديمقراطي ويعزز المساءلة والشفافية في تدبير الشأن العام، ويقوي دور البرلمان في مراقبة السلطة التنفيذية، وقد يدفع الحكومة إلى إعادة تقييم سياساتها وبرامجها الفاشلة وربما تعديلها لتحسين أدائها واستجابتها لمتطلبات المواطنين في النصف الثاني من ولايتها.
* ثانيا: نحو خلق قطب يساري ديمقراطي لمواجهة التغول والريع السياسي.
ولتحقيق أهداف ملتمس الرقابة على الحكومة، يتطلب من حزبنا ومن فرقائه السياسيين أن يوضحوا للشعب المغربي السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمالي الراهن وما يطبعه من فساد وتدهور، وعليه أيضا التوظيف الأمثل للإعلام وتمكينه من المعلومات والتحليلات السياسية التي تصب في أهمية المراقبة البرلمانية. وفي نظر المهتمين بالشأن السياسي المغربي، على المعارضة الاتحادية داخل مجلس النواب أن ترفع من سقف التنسيق والتحالف مع الأحزاب اليسارية المعارضة ومع الأحزاب الوطنية الأخرى التي تظهر استعدادها لدعم ملتمس الرقابة وإسقاط حكومة الغلاء والفساد، فعلى الجميع أن يقتنع بضرورة تشكيل جبهة للديمقراطيين واليساريين والوطنيين للدفاع عن مصالح هذا الوطن وعن استقراره ونمائه.
لنجعل من محطة التقارب المؤسساتي بين حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية فرصة لإعادة الوهج للقيم التي شكلت سبب نشأة الحزبين، ولنجعل من أزمة الديمقراطية التي نجتازها والمتمثلة في عدم رضا فئات عريضة من المواطنات والمواطنين على الطبقة السياسية وفي عزوف العديد منهم عن التصويت والمشاركة السياسية فرصة لإعادة الاعتبار للعمل السياسي عبر تبني طروحاتهم والتجاوب مع انتظاراتهم
حزبا الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية ينتميان لنفس العائلة، عليهما فقط أن يشكلا معا قطبا سياسيا قويا قادرا على تولي تدبير الشأن العام وعلى توجيه البلاد نحو غد أفضل.
* ثالثا: نحو تقوية البنية التنظيمية للحزب عبر الانخراط الفعّال للشبيبة والنساء في رؤية حزب القوات الشعبية.
كل هذا لن يتأتى إلا بإعادة ترتيب البيت الاتحادي وإعادة تنظيم القطاعات الحزبية في أفق عقد المؤتمرات الإقليمية لإعطاء الفرصة لتكريس خيارات الحزب نحو الانفتاح والتجديد والتشبيب، بالاستغلال الأمثل للإمكانيات المتوفرة القادرة على إفراز تنظيمات حزبية فاعلة في المجتمع.
إن انطلاق الدينامية التنظيمية في جميع أنحاء المملكة عقب اختتام فعاليات المؤتمر الوطني الحادي عشر لحزب القوات الشعبية، قد يؤدي لا محالة إلى تنشيط وتحديث البنية التنظيمية والسياسية للحزب. هذا التحديث سيساهم في ترسيخ مكانة الحزب في المشهد السياسي والاجتماعي بالبلاد، وسيساعده على تحقيق رؤيته نحو إقامة مجتمع يسوده العدل والديمقراطية.
وعلى الشبيبة الاتحادية ومنظمة النساء الاتحاديات أن ينخرطا بقوة في هذه الدينامية التنظيمية والإشعاعية والتعبوية من أجل توسيع النفوذ والتأثير لحزب القوات الشعبية داخل المجتمع.
إن انخراط الشبيبة الاتحادية والنساء الاتحاديات بقوة في صيرورة التنظيم الحزبي قد يؤدي إلى تجديد الأفكار والتصورات والطاقة البناءة داخل الحزب، ويعزز من قدرة هذا الأخير على تحقيق الأهداف المسطرة في بيان المؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب، كما سيساهم في تعزيز المساواة والتمثيل العادل لجميع مكونات الحزب في العمليات الديمقراطية وصنع القرار السياسي على المستوى المحلي، والإقليمي، والجهوي، والوطني.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات

 

 

* عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والاخلاقيات

الكاتب : د.محمد السوعلي * - بتاريخ : 29/02/2024

التعليقات مغلقة.