بين المال والسياسة: قراءة في التعديل الحكومي وأثره على المشهد المغربي
علي الغنبوري
التعديل الحكومي الأخير الذي شهدته حكومة عزيز أخنوش يكشف عن معطيات سياسية واجتماعية عميقة، تستدعي قراءة متأنية لفهم التوجهات الجديدة للحكومة وتبعاتها على المشهد المغربي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها المغرب، هذا التعديل، الذي تمثل في إدخال مجموعة من رجال الأعمال وتوسيع دورهم في تدبير قطاعات حساسة مثل التعليم والصحة، يأتي في سياق صعب يتميز بتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، وتفاقم معدلات البطالة، إلى جانب التحديات التي فرضتها جائحة كورونا والأزمات الدولية الأخيرة على الاقتصاد الوطني.
يمكن النظر إلى هذا التعديل على أنه تكريسلنهج ليبرالي فوضوي تتبناه حكومة أخنوش، وهو نهج يتمثل في تعزيز حضور القطاع الخاص في إدارة شؤون الدولة وتوجيه السياسات العمومية، ومع ذلك، فإن هذا النهج يثير تساؤلات مشروعة حول مدى قدرة هذا النوع من التوجهات على تحقيق العدالة الاجتماعية في بلد يعاني من تزايد الفوارق الاجتماعية وتراجع فرص العمل للشباب.
يتساءل الكثيرون: هل بإمكان رجال الأعمال الذين عُينوا على رأس قطاعات اجتماعية حيوية أن يفهموا احتياجات الفئات الهشة من المجتمع ويعملوا على تحسين ظروفهم، أم أنهم سيضعون الأولوية لمصالح القطاع الخاص على حساب المصلحة العامة؟
ينبغي الاعتراف بأن القطاعين التعليمي والصحي، اللذين أُسندت حقيبتهما لرجال أعمال في هذا التعديل، هما مجالان لا يمكن إخضاعهما فقط لمنطق السوق، حيث يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الكرامة الإنسانية والاستقرار الاجتماعي، إدارة هذه القطاعات بمنظور اقتصادي بحت قد تؤدي إلى تغليب الربح على حساب المشروع التعليمي الوطني ، مما يثير مخاوف من تراجع التعليم العمومي لصالح التعليم الخاص، ومن تفاقم الاختلالات في الوصول إلى خدمات صحية مناسبة للمواطنين الأكثر هشاشة، هذا الواقع يعيد إلى الواجهة النقاش حول طبيعة الدولة ودورها في ضمان الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وهو نقاش يتطلب التفكير بعمق في الخيارات السياسية المتاحة ومدى ملاءمتها للأولويات الوطنية.
التعديل الحكومي لم يقتصر فقط على تعزيز الحضور الاقتصادي في الحكومة، بل شمل أيضًا إعادة ترتيب الأوراق السياسية داخل التحالف الحكومي لضمان استمراره، خاصة في ظل ما يشهده التحالف من توترات داخلية، حيث كان من الضروري منح بعض المناصب الوزارية لقيادات حزبية بغية تعزيز التماسك الداخلي للحكومة، غير أن هذا السعي وراء الترضيات السياسية قد يأتي على حساب تحقيق الإصلاحات العاجلة التي تحتاجها البلاد، وفي هذا السياق، يُطرح التساؤل: إلى أي مدى يمكن للحكومة الموازنة بين متطلبات الحفاظ على استقرار التحالف الحكومي وتلبية الاحتياجات الملحة للمواطنين؟
كما أن هذه الترتيبات تعكس استمرار ظاهرة الزبونية والمحسوبية في توزيع المناصب داخل الحكومة ، حيث يتم تعيين المقربين وأصحاب الولاءات السياسية بدلاً من الاعتماد على الكفاءات التي قد تكون أكثر تأهيلاً لقيادة الإصلاحات، هذا الأمر يعزز الإحساس العام بغياب تكافؤ الفرص ويعمق فجوة الثقة بين المواطن والدولة، إذ يشعر المواطن أن المناصب تُوزع بناءً على العلاقات الشخصية بدلاً من معايير الشفافية والنزاهة، استمرار هذا النهج يُعيد إلى الأذهان مسألة الفصل بين النفوذ السياسي والاقتصادي، وهي مسألة حيوية لضمان استقلالية القرار السياسي وعدم تأثره بمصالح مجموعات ضيقة.
تزايد نفوذ رجال الأعمال في الحكومة يشير إلى تحول عميق في طبيعة النخب التي تدير الشأن العام بالمغرب، بحيث أصبحت هذه النخب تميل أكثر إلى الجمع بين القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي، هذا الوضع يجعل المشهد السياسي أقرب إلى «الأوليغارشية»، حيث يسيطر أصحاب الثروة والنفوذ الاقتصادي على مراكز القرار، وهو ما قد يُهدد بتحويل السياسات العمومية إلى مجرد أدوات لخدمة مصالح اقتصادية محددة، بدل أن تكون وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة.
أمام هذا الوضع، يبقى التساؤل كذلك قائماً حول مصير النموذج التنموي الجديد الذي تسعى الحكومة إلى تطبيقه، إذ إن هذا النموذج الذي يُفترض أن يُركز على تحقيق تنمية متوازنة ومستدامة، قد يجد نفسه في تناقض مع التوجهات الليبرالية الفوضوية المتزايدة للحكومة، فالنموذج التنموي يقوم على أسس مثل تعزيز دور الدولة في دعم الفئات الهشة، وتأسيس الدولة الاجتماعية، غير أن توجيه السياسات نحو هيمنة القطاع الخاص على الأدوار الاجتماعية للدولة،قد يُهدد هذه الأهداف، ويزيد من تعميق الفجوة بين الفئات الاجتماعية.
لا يمكن تجاهل مخاطر هذه التوجهات على استقرار البلاد، إذ إن استمرار الشعور بالظلم واللامساواة يزيد من احتمالية ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي، خاصة في ظل أوضاع معيشية صعبة يعاني منها المغاربة جراء ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، فأيانحراف في السياسات الاجتماعية لصالح الفئات الميسورة يمكن أن يفتح الباب أمام سيناريوهات غير متوقعة وغير معروفة العواقب، تعبيراعن رفض المواطنين لهذا النهج الذي يرون فيه استبعاداً لهم من دائرة الاهتمام.
تحكم الاوليغارشية الاقتصادية في السياسة وصعود نخبها إلى مراكز الحكم يمكن أن يتيح تحصيل بعض المكاسب، إذ يمنح لها القدرة على تعزيز موقعها في إدارة الشأن العام، والتأثير المباشر في توجيه السياسات بما يخدم مصالحها الخاصة، غير أن هذا الوضع ليس بدون مخاطر، فمن خلال تقلدها المناصب الحكومية، تصبح هذه النخب تحت الأضواء، وتواجه مباشرةً مطالب المجتمع وتوقعاته، و كما يُقال في المثل المغربي «اللي فراس الجمل كيعرفو السرج»، بمعنى أن ما كان مستتراً في السابق سيظهر للعلن، وهذا ينطبق على هذه النخب التي ستجد نفسها أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على الاستجابة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية الملحة.
في النهاية، تجد النخب الاقتصادية نفسها بين نارين: نار السعي لتحقيق مكاسبها الاقتصادية في السلطة، ونار الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تفرض عليها تقديم تنازلات، وإذا لم تنجح في إيجاد نقطة توازن بين الاثنين، فسيؤدي ذلك إلى زعزعة استقرارها، وإعادة طرح تساؤلات أعمق حول طبيعة الحكم ودوره في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
تحكم الاوليغارشية الاقتصادية في السياسة وصعود نخبها إلى مراكز الحكم يمكن أن يتيح تحصيل بعض المكاسب، إذ يمنح لها القدرة على تعزيز موقعها في إدارة الشأن العام، والتأثير المباشر في توجيه السياسات بما يخدم مصالحها الخاصة، غير أن هذا الوضع ليس بدون مخاطر، فمن خلال تقلدها المناصب الحكومية، تصبح هذه النخب تحت الأضواء، وتواجه مباشرةً مطالب المجتمع وضغوطاته ، و كما يُقال في المثل المغربي «اللي فراس الجمل كيعرفو السرج»، بمعنى أن ما كان مستتراً في السابق سيظهر للعلن، فالمال «كيبغي الستر».
ما يقوم به اليوم أحد مكونات الحكومة سيدفع النخب الاقتصادية الى ان تجد نفسها بين نارين: نار السعي لتحقيق مكاسبها الاقتصادية في السلطة، ونار الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تفرض عليها تقديم تنازلات، وإذا لم تنجح في إيجاد نقطة توازن بين الاثنين، فسيؤدي ذلك إلى زعزعة استقرارها، وإعادة طرح تساؤلات أعمق حول طبيعة المنظومة السياسة ككل ودورها في تحقيق التنمية الشاملة.
لا بد من التأكيد على أن الحياة السياسية السليمة هي تلك التي تقوم على أدوار واضحة ومتوازنة بين مختلف الفاعلين، حيث تسهم في تدبير الشأن العام بفعالية وشفافية،و تمكن من خلق مؤسسات سياسية قوية تعمل بشكل منسجم مع التوجهات العامة للدولة، وتضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار، عبر تبني سياسات عمومية تضمن توزيعًا عادلاً للثروة، وتوفر الفرص الاقتصادية والاجتماعية لجميع الفئات، وخاصة الفئات الهشة، وهو ما يتطلب دورًا فاعلاً للأحزاب السياسية والنخب في تقديم رؤى وبرامج حقيقية ترتكز على احتياجات المجتمع، وتستجيب للتحديات الراهنة.
إضافة إلى ذلك، فإن الالتفاف حول المؤسسة الملكية يظل الأساس في قيادة مسار التغيير وتحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي، اذ تشكل المؤسسة الملكية مرجعية ثابتة وقوة ضامنة للاستقرار والتوجه نحو المستقبل، وقد أبانت عبر التاريخ عن قدرتها على قيادة إصلاحات كبرى تضع المغرب على مسار التقدم والتنمية، هذا الدور القيادي يتيح بناء توافق وطني حول المشاريعو الاصلاحات الكبرى، وتعبئة الجميع حول أهداف مشتركة، مما يساهم في تعزيز ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة، ويوفر الأرضية المناسبة لتحقيق تنمية شاملة.
الكاتب : علي الغنبوري - بتاريخ : 26/10/2024