تيه فرنسا إفريقيا ومغربيا

عبد الحميد الوالي / ترجمة: لحسن العسبي

أريد، بداية، أن أؤكد لقرائي المحتملين أنه لا يحركني أي عداء تجاه فرنسا. بل على العكس من ذلك، هذه المقالة هي «صرخة قلب». وإذا كان كاتب ياسين (الروائي والأديب الجزائري) قد قال إن اللغة الفرنسية غنيمة حرب، فإنه بالنسبة لي تشكل فرنسا بلدي الثاني، لأنها مكنتني من أن أفتح عيناي على «فلسفة الأنوار»، تلك المغامرة الثقافية الجميلة التي وضعت الحرية في صلب كل شئ وهيأت للتقارب بين الرجال الأحرار كيفما كان لونهم أو إيديولوجيتهم أو اعتقاداتهم الدينية.
أكيد أننا نستحضر أن واحدا من الشعارات الذي أصبح يرفع أكثر فأكثر خلال السنوات الأخيرة في مناسبات إفريقية متعددة هو: «ارحلي فرنسا». حيث أصبحت عدد من الدول الإفريقية، بشكل متعاضد، تأخذ مسافة منها، هي المتهمة باتباع سياسة استعمارية جديدة، تتجاهل مصالح شعوبهم المشروعة. ويخشى أن تتبع بلدان أخرى ذات الطريق، من ضمنها بشكل خاص المغرب، مما قد يوجه ضربة قاصمة للتواجد الفرنسي بإفريقيا ومضاعفة اندحارها (بها).
يسجل أن فرنسا قد واصلت، بعد الإستقلالات، التعامل مع إفريقيا كما لو أنها مجال مضمون. حيث شكلت حركة «فرنسا إفريقيا» المثال الحي على ما اقترفته من إسقاط حكومات إفريقية. ومؤكد أن باريس تحرص على الإعلان أنها قد وضعت نقطة النهاية لتك السياسة، لكن ذلك لا يمنع من تواصلها بأشكال ووسائل مختلفة. بينما غالبية الدول الإفريقية قد نضجت، وجميعها تحرص على أن تكون سيادتها محترمة وأن تعيد فرنسا النظر في سياسة التعاون من خلال جعلها متأسسة على منطق «رابح رابح» كما تحاول الصين (مثلا) القيام بذلك. مثلما أنهم لو يعودوا يتقبلون أية حماية عسكرية منها، هي المتهمة بأنها أصلا حماية غير مجدية، إن لم يكن الأمر مشكوكا في أهدافها وحقيقة مراميها.
الظاهر أن سياسة فرنسا بإفريقيا قد عفا عنها الزمن، وأنها متجاوزة. والحال أن القوى الجديدة، الصاعدة على المستوى الدولي والجهوي، أدركت أنه لا إمكانية لمد نفوذها بإفريقيا سوى عبر تغيير منهجية عملها ومقاربتها. ومؤكد أن هذه الأخيرة تحجب بخبث فكرها الطامح للإستحواد خاصة على الثروات الطبيعية للقارة السمراء. وهذا واحد من أكبر التحديات التي سيواجهها الأفارقة المدركين أنه ما عاد مسموحا أن يتم استغفالهم. ومن هنا الثقة المتعاظمة التي بدؤوا يضعونها في فاعلين محليين مثل المغرب.
إن المغرب، عكس الجزائر، قد وجه نظره منذ استقلاله سنة 1956 صوب المستقبل من أجل ترسيخ سياسة صداقة حقيقية للتعاون مع فرنسا، مما كانت من نتائجه أن أصبحت باريس شريكه الإقتصادي الأول. مثلما أن الشعب المغربي قد خص بلاد فولتير بصداقة حقيقية، عبر حرصه على عدم تسميم العلاقات معها من خلال طرح أسئلة الذاكرة. رغم أن هناك أسبابا جدية لينهج الشعب المغربي توجها آخر مغاير.

 

هل علينا التذكير بأن فرنسا هي التي عملت منذ حرب إيسلي سنة 1844، على تشتيت وحدتنا الترابية المغربية حين اقتطعت ما يوازي نصف أراضيه الحالية وإلحاقها بالجزائر، التي خلقتها خلقا انطلاقا من «الولاية التركية» التي كانت محدودة في الشريط المتوسطي. ولقد نجحت في ذلك عبر استعمال وسائل قمعية عنيفة غير إنسانية وغير قانونية. حيث تعرضت مناطق مغربية لقمع دموي خاصة بمناطق غورارة وتوات وتيديكلت. وهي المناطق التي تعرضت ما بين 1900 و 1903، لعملية إبادة يؤكدها اعتراف فرنسي قال صاحبه: «لا أعتقد أن هناك مذبحة شبيهة لما وقع سنة 1901. بل حتى حيوانات مفترسة مثل النسور وبني آوى قد هالها ما وقع. فقد هلكت كل الساكنة وتم القضاء على زعمائهم». ولم تتوقف فرنسا عند ذلك الحد، بل إنها واصلت إلحاق أراض مغربية أخرى بصنيعتها الجزائر، بعد أن فرضت الحماية على المغرب سنة 1912، عبر اعتمادها منهجية مجرمة تتأسس على تجويع الساكنة المحلية وقطع كل طرق التنقل والتواصل عليها، أو اعتماد خيار التصفية عبر عمليات تصنف على أنها إبادة جماعية.
لقد قررت فرنسا والجزائر، إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين، هدفها (كما قال الرئيس ماكرون) «النظر إلى مجمل تلك المرحلة التاريخية، انطلاقا من بداية الإحتلال (أي انطلاقا من سنة 1830) حتى حرب التحرير، بدون طابوهات، وبإرادة تسمح بالإطلاع على كامل الأرشيف الفرنسي». والحال أنه لا يمكن إنجاز عمل محترم ودقيق للذاكرة إذا ما أدرنا الظهر للحقيقة الصارخة وهي أن أغلب ضحايا الإستعمار الفرنسي هم مغاربة تم اجتثات أجزاء واسعة من أراضيهم لخلق الجزائر عبر آليات غير نظيفة. نعم، لقد تخلق عن ذلك شعب جزائري، من خلال انخراطه في حرب بطولية ضد الإحتلال الفرنسي ابتداء من سنة 1954، لكن ذلك لا يمنع من أن خريطة الجزائر هي طرس (هيكل) متشكل حديث، وأنه يكفي النقر قليلا (بمطرقة التاريخ) حتى تظهر مجددا خريطة المغرب التي تمتد مناطقها الشرقية من جنوب السعيدية (140 كلمترا عن المتوسط) حتى حدود عين صالح. مثلما ستظهر خرائط تونس وبلدان مجاورة بالساحل.
هل علينا التذكير أيضا، بأن فرنسا هي التي مهدت لاحتلال الصحراء الغربية للمغرب من قبل إسبانيا، وأنها تدخلت مرارا حين كانت هذه الأخيرة تتعرض لهجومات ساحقة للمقاومة المغربية.
إن التجربة الممتدة للعلاقة بين الشعوب قد مكنت المغرب، البلد العريق، من تفضيل التوافق حين لا يمس ذلك بحقوقه المشروعة. والحال أن موقف الحكومة الفرنسية من قضية الصحراء، المتأسس على التردد والتهرب والإلتباس، قد بدأ يسيئ إلى تلك المصالح الحيوية المغربية. مثلما أن ذلك يساهم في إطالة مشكل الصحراء الذي يخدم اللعبة الجزائرية.
إن مسؤولية فرنسا، كما هو واضح إذن، كبيرة في استعمار إسبانيا للصحراء، وبمواصلة تلكؤها في انتهاج موقف غير ودي تجاه المغرب فهي تقامر بفقدان صديق وفي، في لحظة يتعاظم فيها مغادرة أصدقاء تقليديين لها في إفريقيا مجالات نفوذها. وفي لحظة يعاد فيها ترتيب الأوراق بقارتنا السمراء تحت التأثير المتعاظم للصين الواعدة بالتنمية، وروسيا المبشرة بإمكانية ضمانها للأمن.
إن المغرب ورقة محورية في إعادة الترتيب هذه القائمة في إفريقيا اليوم. وهو يحظى بدعم واضح من واشنطن وباحترام من الصين وروسيا. لقد استعاد المغرب مكانته المحترمة كفاعل في إفريقيا، رغما عن السياسة الإستعمارية لفرنسا التي سعت منذ منتصف القرن 19 إلى قطع جذوره عن إفريقيا. ولقد لعب عاملان محوريان دورا في ذلك: التأثير الثقافي العميق والديني للمغرب، الذي يغطي كل العالم الفرنكوفوني (بإفريقيا) ويمتد حتى حدود العالم الأنغلوساكسوني الإفريقي. ثم الحيوية المستعادة لسياسته الإقتصادية المتأسسة على مبدأ حماية المصالح المتبادلة، سواء مصالحه الحيوية وكذا مصالح شركائه (الأفارقة).
إنه مثير للدهشة كل هذا العمى الفرنسي للعب دور متفرد في القارة السمراء، وهي في الواقع تُطرد منها، لأن هناك إعادة ترتيب للأوراق بدونها، بل في غفلة منها. وذلك من خلال انتهاج سياسة مخاصمة للواقعية السياسية والرهان على حصان سباق خاسر هي الجزائر، التي يؤكد العديد من الخبراء الجزائريين أنفسهم أن «العالم يدير ظهره لها، وأنه لم يحدث أن كانت في عزلة مماثلة على المسرح العالمي». بسبب الأزمة المتراكبة التي أغرقتها فيها الطغمة العسكرية، المتعاظمة بسبب نضوب مصادر ثرواتها الغازية. وبذلك أعطت فرنسا الدليل على أنها بلاد تائهة، بحكومة غير قادرة على تحديد دقيق لمكان تواجد مصالحها العليا.
كلنا يعلم أن من نقط قوة فرنسا منذ 1945 هو سياستها الخارجية. تلك التي وضع أسسها شارل دوغول، المستندة على رؤية بعيدة المدى، الساعية إلى المحافظة على مكانة فرنسا بالعالم عبر استحضار لحقائق توازن القوى الدولية وجعل مصالح فرنسا متساوقة معها. مما مكن باريس أن تنال المكانة التي تستحقها ضمن مهرجان الدول العظمى وساهمت في حماية الأمن والسلام العالميين. لكن فرنسا اليوم قد بدأت تتحول إلى مجرد قوة غير ذات بال، لا تأثير لها على العلاقات الدولية. ذلك ما يلاحظ في أروبا وخصوصا في إفريقيا حيث كلمتها لم تعد مسموعة بسبب اعتبارها مجرد نوايا وليس حسابات ذكية مفكر فيها وفعالة.
إن قوة دولية قد منحت للمغرب دعمها سواء بالإعتراف بمغربية الصحراء (حال واشنطن)، أو عبر الإعتراف بأهمية وجدية فكرة الحكم الذاتي (ألمانيا وإسبانيا). ومؤسف أن بلدا كبيرا مثل فرنسا، الذي يظل ينادي باحترام القانون الدولي، لا يزال يتعامل بأسلوب غامض تجاه ملف الصحراء.
علينا الأمل في أن تنصت الحكومة الفرنسية لصوت التعقل. وذلك في مصلحتها. أولا لأن فرنسا تتحمل مسؤولية تاريخية في تقسيم الوحدة الترابية للمغرب وفي خلق مشكل الصحراء، مما أثر في تأسيس وقيام المغرب العربي الكبير. ثم لأنها قد تفقد صداقة حقيقية لبلد وشعب ونخبة (مثل المغرب). وأخيرا لأن تنطع حكومتها الحالية قد يؤدي بها إلى فقدان بريق وامتداد عمقها الإستراتيجي الإفريقي. سيكون ذلك مؤسفا لفرنسا وأيضا لبلدان مثل المغرب، المرتبطة بها بقوة رغم مآسي عثرات التاريخ المشترك بينهما.

خبير مغربي في العلاقات الدولية، مستشار أممي سابقا، ومن الأطر المغربية الرفيعة التي نظرت لفكرة «الحكم الذاتي».
(عن موقع ميديا 24)

الكاتب : عبد الحميد الوالي / ترجمة: لحسن العسبي - بتاريخ : 03/09/2022