جَوْلَـةُ بِمَعِيَّةِ البُـراق من أجل فلسطين

عبد الغني أبو العزم

لم تخضع كتابة هذا النص إلى أي تغيير أو تحوير لأن ممارسة إسرائيل تدخل في سياق
سياستها القائمة على الإبادة والميز العنصري، وهذا ما يتكرر في كل حين.

لِمَنْ أَقولُ صَباحَ الخَيْر؟
أيُّ صباحٍ هذا !
في ظلمة الإظلام ظلام سائر
لِمَنْ أَقولُ مَساءَ الخَيْرِ؟
هُم تِبْعُ ظِلَّةٍ تدنيس واحْتِلال جائِرُ
أيُّ مساءٍ هذا !
والدِّماء تَنْزِفُ من يَوْمٍ إلى نِهايَتِهِ
ومِنْ دَوْرَةٍ إلى أُخْرى
تَنْزِفُ مِنْ خَريفٍ إلى خَريفٍ آخَرَ،
بَعْدَ كل نُزْفَةٍ ونُزْفَةٍ
وبعْدَ كُلِّ شَهْقَةٍ وشَهْقَةٍ، دِماءٌ تَنْزِفُ
رِجالٌ صَهايِنَه
أَجِدُهُمْ مُلَطَّخين بِدَمِ الأبْرِياء
وسُكّانِ الأرْضِ والتّاريخ

* * *

2

عالَمٌ يُشاهِدُ فَظائِعَ يَوْمٍ بَعْد يَوْمٍ، أيّامٌ مُتشابِهاتٌ
هُمْ أولئِكَ الَّذين تَعْرفونَهُمْ،
تاريخَ شَتاتٍ، تاريخَ أوْهامٍ وأضْغاثَ أحْلامٍ
أرَّخَ لهم التّاريخُ عَلى هَواهُمْ
هاهُمُ يُعيدون المَجازِرَ، بَعْدَ كُلِّ مَجْزَرَهْ،
لتَصيرَ مَحْرَقَهْ
على أجْسادِ أطْفالِ البَراءَهْ
منْ دونِ بُطولَةٍ، من دون مَجْدٍ، من دون مُرُوءهْ
بين أصابِعِهمْ آثارُ مَحْرَقَهْ
وَخَلْفَهُمْ آثارُها، وأمامَهُم وقائِعُها
وفَوْقَهُمْ دخانُها
هي هذه المَحْرَقَةُ الآن

يُعيدون اِرْتِكابَها تَقْسيطاً
يُعيدونَها مَجازِرَ تَقْريضاً

* * *

تَرَكْتُ نَفْسي والتّاريخَ وَصَدَى الأيّامِ
لِتُسافِرَ في مَهَبِّ الرِّياح الأرْبَعَهْ
على جناحي البُراق
بُراق هَذا العَصْرِ عارِفٌ باتِّجاهاتِ البُوصَلَهْ
عالِمُ بِكُلِّ الأدِلَّهْ
لأرى ما أراهُ، ما أراهُ لَيْسَ حُلْمَ حالِمٍ
هذا الذي أراهُ سَأَرْوِيه:
وقائِعَ ألْفَ طِفْلٍ وطِفْلٍ وَزِيادَهْ

3

وسَأُعَرِّجُ على ظُلْمَةِ السُّجونِ
لِحكايةِ احْتِراقِ الأسيراتِ والأسْرَى
لا فَرْق بَيْنَ الأعْمار

البُراقُ يَعْرِفُ كُلَّ الحِكاياتِ، والخَبايا والزّوايا
وحرائق الهزائم ونكبات المرايا
ما أراهُ يَبْعَثُ على القيْء
يَسْتَفِزُّنِي يَدْفَعُني حقّاً أن أصْرُخَ ضِدَّ خَرابِ الدِّيار
أن أبْصُقَ في وجْهٍ أضْحى ضَريراً
وسيظَلُّ ضَريراً
ولم يَكُنْ يَوْماً بصيراً
في أرْضِ أضْحَتْ رُعْباً
أرْضُ اللهِ تَنْبَعُ بِماءٍ سَلِسٍ
مُنْذُ أزْمِنَةِ الأمْسِ
وما قبْلَ الأمسِ
مِنْ صَفاءٍ، وَمِنْ سَماءٍ
يَتَحَوَّلُ دَماً، يَسيلُ دَماً على دَمٍ
إلى أخْمَصِ القَدَمِ
هذا الصَّدَى يَتَرَدَّدُ صَداهُ في قُدْسِ الأقْداسِ
وبكُلِّ الأنفاسِ

* * *

أطوفُ بَين جَناحي البُراق
أَقِفُ مُطَوَّلاً لأقُصَّ ما أرى من دون إخفاق

4
عجيبٌ، غريبٌ أمْرُ هذا البراق
كيف يقف بي فَوْقَ القُبَّة الخضراء

سَلامُ اللَّهِ عَلَيْك يا مدينَةَ القُدْس
لقد جِئْتُكَ مِنَ الأقصى
لأَلْمَسَ، لأسْتَقِرَّ في الأقصى
هو هذا، هو الحلم الأقصى

يطوف بي البُراقُ بين حَيفا ويافا،
والخليل، ورام الله، والناصرة، وبيت لحم
أسْماء لا ذاكِرَةَ لها في ذاكرةِ التوراة
ثابتة في ذاكِرةِ الأَرْضِ

أسْماء أزِقَّة مَدينَةِ القُدْسِ أنوار
أسْماء لَنْ تَمْحُوَّها سرديّات المشنا
ولا لُغَةُ التَّلْمودِ

* * *

أرى ما أرى متأملاً
مُرْتَعِشاً، مُضْطَرباً
أرى كُلَّ ما فيها يَنْطِقُ،
ذاكِرَةُ الأيّامِ الماضِيَهْ، هِجْرَتها، وَوقائِعُها الآنيه
تَصْرُخُ، صَوْتُها أصْوات
ضَميرُ العالَمِ أراه ولا أراه
ها هنا استقرَّتْ حَضارَةُ الغَرْبِ

5

لا عَيْنٌ رَأَتْ
ولا أذُنٌ سَمِعَتْ

كل ما كان قائِماً آمناً عَرَبِيّاً
أضْحى مَهْدَ دِماء

* * *

على جناحي البُراق
بَدَأَ الصَّدَى يَغْمُرُني، يَتَذَكَّرُ
لَذَّةَ الرُّؤْية السَّديمَهْ،
تَحْفِرُ عُمْقاً في الذّاتِ الأليمَهْ
صَدَى قُضْبانٍ وأقْفالٍ وسجناء الأمانهْ
ومَرْوان يَضْحَكُ بِسُخْريّهْ
ناسياً حكم المؤبّد

وبجانبه رفاقُ دربه، كريم وماهر وسعدات
سُجناء منذ نصف قرن،
قائمون بَين جُدْرانِ زَنْزانَهْ
بإيمانٍ وَعِزَّهْ
ها هنا استَقَرّت حَضارَةُ الغَرْبِ،
لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ
أترى في كل هذا، قضاء وقدراً ؟
مرارة الجواب، تَعْلَقُ بِاللِّسانِ واللَّهاة والحَلْقِ
جِراحُ شُهَداءِ الأرْضِ كُثْر
لا نهايَةَ لِمَنْ يَحْمِلُ غُصَصاً

6

من زَمَنِ هذا الزّمان وذاك

* * *

عادَ بِي البُراق
جِهَة جِدارِ الوَصْمَة

أنْزَلَنِي لأُشاهِدَ وَشْمَةَ عارٍ على الأرْضِ
حصارٌ وأسلاكٌ وجنودْ
والغضب يَتَلبَّسُ الكَوْنَ
ها هنا تَقْبَعُ حضارَةُ الغَرْب
لا عَيْنٌ رَأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ

عادَ بي البُراقُ إلى ديارِ الناصرة وَبَيْت لحم
لأبْحَثَ بَيْن النِّساءِ عَنِ امْرَأَةٍ
تَحْمِلُ اسْمَ اسْمَ اسْمَ مَرْيَمَ
وجدْتُ مَرْيَمَ انْقَطَعَ بُكاؤها
بَعْدَما ظَلَّتْ زمناً تَحْكي وتَبْكي

وقد كَفْكَفَتْ الآن لَآلِئَ دَمْعِها
تنْهَضُ مَريَمُ مُلَطَّخَةً بِدَمِ السِّنين الماضيهْ
والوَقائِعُ الآنِيهْ
مَحاجِرُها غَسَقٌ
أشْفارُها شَفَقٌ
تَضَرَّجَتْ أهْدابُ فَساتينها بِالدَّم

7

ومن خَلْفِها نِساءٌ ورجالٌ
وفي حِجْرِها طِفْلٌ
رأيْتُ القَلَقَ، في عَيْنَيْهِ غَضَبٌ
رأيْتُ الضَّجَرَ، على شَفَتَيْهِ صَخَبٌ

يَصيحُ الطِّفْلُ بين يَدَيْها
يَنْطلِقُ صامِداً لا مُرْتَعِشاً
لم يَعُدْ يُنادي الضَّميرَ الذي لا ضَميرَ لَهُ
صار يَضَعُ على الكَفِّ حِجارةً وسِكِّيناً،
يَشُدُّهما بِأصابِعِهِ مَنارَهْ
يَرْمي بالحِجارهْ
من قَلْبِ المغارهْ
وبِكُلّ مَهارهْ
وتحت أعْيُن المارهْ
وسلاح المارقهْ

الطِّفْلُ لَمْ يَعُدْ يَسْكُنُ المَغارَهْ
تَعَلّمَ كيْفَ يَرْمي بِالحجارهْ
ضد العَهارهْ
مريمُ والطفْلُ لا يَبْكِيانِ
لم يَعُدِ الطِّفْلُ يبكي
رأيْتُ مَرْيَمَ تُنادي بأعْلى صَوْتها :
فِلَسْطين يافِلَسْطين فِلَسْطين يافِلَسْطين
وبيْن أصابِعِها مفاتيحُ البَيْت،
والطِّفْل يُرَدِّدُ، يَصْرُخُ في كُلِّ آن :

8

هذه أرْضي، أرْضي، أرْضي
مُنْذُ عَهْدٍ، وَقَبْلَ عَهْدِ كَنْعان

تَنْهَضُ مَرْيَمُ خَلْفَ أشْجارِ الزَّيتونِ، تُرَدِّدُ :
لِتَرْحَلوا يا هؤلاء
أقيموا صَلاةَ أرْضِ الميعاد
في غَيْرِ هذا المكانِ
فلَيْس قابِلاً ليكونَ موعداً لميعاد
ولأي زَمانٍ
خذوا معكم أضْغاثَ أحْلامِكُم
فهذا الموْعِدُ الوَهْمُ لَمْ يَكُنْ ميعاداً
«احْمِلُوا أسْماءكُمْ وانْصَرِفوا»
قالها من قبلُ محمود

وهكذا تَنْهَضُ مَرْيَمُ والطِّفْلُ يَحْرُسُها
مَرْيَم تُنادي بِأعْلى صَوْتها
صار لدَيْها ألْفُ صَوْتٍ وصَوْتٍ
بَعْدما أعياها النِّداء
وألْفُ بَيانٍ وَبيانٍ
تَنْهَضُ مَرْيمُ، تَصيحُ تَقولُ:
هذا العَصْرُ صار مُلَطَّخاً بِالفُجور
أفْسَدوا مَمْلَكَةَ الرَّبّ بالشَّرْقِ
ملاعين، صهاينة هؤلاء الملاعين، صهاينة

أي جَهَنَّم ! أي جَحيمٍ سَيَرْضَى

9

أن يكونَ مُسْتَقَرّاً لَهُم !
وَحَتَّى شَجَرَة الزقوم أراها نافِرَه
تَرفُضُ أي لُغَةٍ قاهِرَه
لَنْ تَقْبَلَ وَلَوْ عَنْ طَواعِيَةٍ سافِرَه
أن يَقْبَعوا تحت ظِلالها
ولَوْ بِأوامِرَ آمِرَه.

بيروت، 1982/6/19

الكاتب : عبد الغني أبو العزم - بتاريخ : 24/10/2023