حدث 11 يناير 1944: في مساراته الثلاثة

السفير محمد الاخصاصي

يكتسي حدث رفْع «وثيقة» المطالبة باستقلال المغرب، يوم 11 يناير 1944، أهمية وطنية، سياسية وكفاحية في تاريخ المغرب المعاصر.
إنه حدث يشكل حقاً وحقيقة محطة مفصلية في مسار الحركة الوطنية المغربية من أجل التحرير والاستقلال، بل يعكس تحولاً نوعياً، ديناميكياً في مسارها التاريخي، تتجاوز أبعادُه المطالبة بالاستقلال لكي تمتد فتطال ما هو أبعد وأعمق من المطالبة بإلغاء «عقد الحماية»، وانتزاع استقلال البلاد.
فقد فتح الحدثُ مسارات كفاحية بعيدة المدى، سياسية وجيوسياسية، ترابية، وتنموية ليس أقلها: استعادة الوحدة الترابية للمملكة، وتحديث ودمقرطة نظامها السياسي، وتفعيل دورها في مجالها الحيوي القريب: المغاربي والعربي والإفريقي، وفي مُحيطها الجغرافي الأوسع، بالانخراط النشيط في منظومتي الأمم المتحدة وحركة عدم الانحياز.
ويجدر بنا، اليوم، ونحن نحتفل بالذكرى الخامسة والسبعين لحدث 11 يناير 1944، ألاَّ نتوقف عند المغازي السياسية المباشرة، والدلالات التاريخية اللصيقة بهذا الحدث الوطني وحسب، بل واجبنا إزاء الجيل الثالث لما بعد حدث يناير 1944، ومن يأتي بعده من الأجيال، أن نستبطن الأبعاد المدبدة للحدث، وأن نستكشف المسارات السياسية والجيوسياسية والجيو-استراتيجية التي فتحها، والديناميات الإنسانية التي أطلقها…
إن الأمر يتعلق تحديداً باستجلاء حقيقة واستمرارية الروابط التي توطدت بين الشعب والمؤسسة الملكية، وباستنطاق التفاعلات التي كيفت علاقاتهما، سواء فيما يتعلق بتحرير المغرب من براثن الاستعمار، أو تعلق بإرساء أركان نهضته السياسية والمؤسساتية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية في عهد الاستقلال والسيادة.
وفي سياق هذه المقاربة الاستقرائية، في قراءة حدث 11 يناير 1944، يمكننا التساؤل حول طبيعة واتجاهات هذه المسارات والديناميات التي فتحها وأطلقها، وذلك على ضوء ما خاضه ويخوضه المغرب من نضالات، وما ينخرط فيه من إنشاءات، وما يتوق إليه من أهداف وتطلعات؟
وتقتضي الإجابة الأولية عن هذا التساؤل العريض، تركيز النظر على المسارات الأساسية، الحيوية التي فتحها حدث يناير 1944. ونكتفي، في إطار هذه المساهمة بإحياء ذكرى الحدث، باستظهار أهم معالم هذه المسارات المتوازية والمتزامنة.

أولاً- المسار السوسيو-سياسي:
أول هذه المسارات: هو مسار سيوسيو-سياسي تبلورت معالمه المتعددة من خلال مضمون نص «وثيقة» المطالبة بالاستقلال من جهة، ومن خلال دلالاتها التاريخية من جهة أخرى.

I/ فيما يتعلق بمضمون «الوثيقة»، فإنه انصب بشكل أساسي على مطلب الحركة الوطنية بإلغاء «عقد الحماية» الذي أفرغ من محتواه من طرف القوى المستعمِرة (بكسر الميم)، والمطالبة القوية، الجريئة بالاستقلال. وفي نفس الوقت، فقد طرح مضمون «الوثيقة» الإطار السياسي لمغرب الاستقلال، وهو الإطار الديمقراطي لنظام الحكم في عهده الجديد.
وقد شكل هذا الربط العضوي بين الاستقلال والديمقراطية في «وثيقة» المطالبة بالاستقلال، رؤية وطنية حداثية لمستقبل المغرب المستقل، وهي رؤية شكلت إدانة صارخة وتحدياً قوياً لنظام «الحماية» الذي حول النظام السياسي للدولة المغربية إلى نظام استعماري، استبدادي، استتباعي، مباشر، تفاقمت قرارات وإجراءات الإدارة الاستعمارية لمحاصرة دور الدولة المغربية، وتجريدها من صلاحياتها السيادية، في انتهاك صارخ لروح ومقتضيات «عقد الحماية» ذاته.

II/ أما فيما يتعلق بالدلالات السياسية، التاريخية لـ»وثيقة» المطالبة بالاستقلال، فإنها تنصب على واقع وحقيقة التفاعل والتمازج بين جلالة السلطان محمد بن يوسف والقيادات السياسية للحركة الوطنية المغربية، في صياغة وإعلان «وثيقة المطالبة بالاستقلال».
إن الأمر يتعلق في الحقيقة بميلاد «ميثاق وطني» حاسم الوقع السياسي، قوى المفعولية الكفاحية من أجل انتزاع استقلال البلاد. وقد تولد عن إرساء هذا «الميثاق الوطني» – الذي كان ثمرة تفاعل وتآزر طويلين بين السلطان والحركة الوطنية، منذ سنة 1930، بصفة خاصة – انخراط الشعب المغربي بكافة نخبه السياسية والثقافية، وفئاته المجتمعية – باستثناء فئة ضئيلة من الخونة وأعوان الاستعمار–، في حمأة الكفاح الوطني، بقيادة ملك البلاد، محمد الخامس، تغمده الله بواسع رحمته، من أجل التحرير والاستقلال.

III/ ولقد كان من نتائج هذا التحول السياسي، النوعي في المسار الكفاحي للحركة الوطنية، أن أنضج شروط «ثورة الملك والشعب» (1953-1956)، كما أنبت، في مرحلة ما بعد الاستقلال، مقومات ومحددات موضوعية أطرت وكيفت خوض المملكة المغربية – وعلى مدى أزيد من ستة عقود ونصف – لمعارك وطنية متوازية، متتالية، ترابية وسياسية وبنيوية وتنموية:
• معارك ترابية، أفضت إلى استعادة المغرب لوحدته الترابية، في نونبر 1975، وتتواصل للدفاع عنها ميدانياً ودولياً (1975-2018)؛
• معارك سياسية، أسفرت، بعد مخاضات عسيرة، عن الانخراط الإرادي، الواعي منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، في مسلسل «الانتقال الديمقراطي»، في إطار التفاعل والتوافق بين الملك والشعب. وهو التطور الذي رسخه دستور البلاد (يوليوز 2011)، حينما جعل من «الخيار الديمقراطي» ثابتاً من ثوابت الأمة، ومن مبدأ فصل السلط وتوازنها مرتكزاً أساسياً لنظام الحكم، ومن السهر على احترام حقوق الإنسان وضمان شروط المواطنة الكاملة، ركناً مكيناً من الأركان الدستورية للدولة؛
• معارك تنموية، تمخضت، عبر جهود حثيثة، عن إرساء بنيات تحتية رافعة في المجالات كافة، وعن بناء اقتصاد وطني متطور يعزز صمود البلاد في وجه موجة العولمة الجامحة، وينحو صوب الارتقاء به لكسب رهاني «الاقتصاد الأخضر»، و»اقتصاد المعرفة»، وعن إصلاح وتحديث جهوي واعد، وذلك في سياق إرساء تنمية شاملة ومستدامة؛
• معارك اجتماعية، أسفرت عن إصلاحات بنيوية، تربوية وصحية واجتماعية، تترجم إنجازاتها الكثيرُ من المؤشرات الرقمية الدالة، وتعكس توجهاتها انخراطاً جاداً في مشروع تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.
وتعكس كل هذه المعارك الحاسمة التي حمل لواءها الملكان الراحلان، محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله، ويُواصل حمل مشعلها جلالة الملك محمد السادس – ظلت رافعة التفاعل والتلاحم بين العرش والشعب قوية، متماسكة، فاعلة وحاسمة.
وبفضل هذه الإنجازات السياسية والترابية والحقوقية والتنموية والاجتماعية، تمكن المغرب – خلال فترة قصيرة (1956-2018) نسبياً – من كسب رهانين عظيمين، تميز بهما في عالم الدول السائرة في طريق النمو: أولهما، نجاحه في تحديث كيان الدولة على خلفية عراقتها، في أفق الارتقاء بها نحو دولة وطنية، مدنية، نهضوية. ثانيهما، نجاحه في توفير شروط الاستقرار السياسي، وفي تعزيز مقومات التجانس المجتمعي، وفي تكييف وتطوير الإطار الديمقراطي.

ثانياً: المسار التحرري، الجيو-سياسي:
المسار الثاني: هو المسار التحرري-الجيو-سياسي. ففي سياق هذا المسار التحرري، الجيو-سياسي، واصل المغرب كفاحه التحرري، غداة استقلاله السياسي، من أجل دعم حركات التحرر في محيطه الإقليمي، المغاربي والإفريقي. ويشهد سجل الذاكرة الوطنية والمغاربية والإفريقية على ما بذله المغرب من جهود سياسية ولوجيستيكية ودولية حثيثة، من أجل دعم «الثورة الجزائرية»، مادياً ومعنوياً، وفي سبيل دعم ومساندة حركات التحرير في إفريقيا. كما ساهم بطوعية وأريحية في إطلاق دينامية «الوحدة الإفريقية»، منذ بداية ستينات القرن الماضي، كما يساهم اليوم في تطوير وتحديث المنشآت المؤسساتية والتنموية لـ»الاتحاد الإفريقي»، منذ أن استعاد مقعده فيه.
وانخرط المغرب بكل قواه في لعب دور نشيط لبناء وتعزيز بنيات التضامن العربي والإسلامي، بعد إنشاء «جامعة الدول العربية»، ولدى تأسيس «منظمة التعاون الإسلامي». ولقد كان الخطاب التاريخي الذي ألقاه جلالة المغفور له محمد الخامس، بطنجة في أبريل سنة 1947، مفتاحاً سياسياً وانخراطاَ ميدانياً في ربط المغرب بمجاله القومي، العربي، وفي تمتين لحمة التضامن العربي-العربي. وكان لهذه المبادرة التاريخية لجلالته، دور بالغ الأثر في تعبئة الأقطار العربية المستقلة آنئذ، لطرح ومساندة «القضية المغربية» في منابر الأمم المتحدة.
وبنفس الرؤية النافذة، والتوجه التضامني، سعى المغرب، غداة استقلاله، إلى وضع الأسس المكينة لبناء وحدة مغاربية، وفية لتعهدات وتطلعات حركات التحرير في بلدان المغرب العربي، ومتجاوبة مع متطلبات التنمية في الفضاء المغاربي. وقد كان مؤتمر طنجة الذي دعا إليه المغرب، واستضاف فيه حركات التحرير المغاربية، منطلقاً لمسلسل مغاربي، أثمر سنة 1989، ميلاد «اتحاد المغرب العربي» بمراكش، وهو «الاتحاد» الذي قطع أشواطاً هامة في مجال الاندماج المغاربي، المؤسساتي، والاقتصادي، والثقافي، لكنه تعرض لحالة من العطب في ظل الصعوبات التي عاقت اطراد مسلسله، في ظل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، بين الجزائر والمغرب.
بيد أن ذلك العطب الذي يعرقل، مؤقتاً، مسيرة «اتحاد المغرب العربي»، لم يمنع المغرب، ولن يمنعه من مواصلة جهوده الحثيثة من أجل استئناف مسيرة «الاتحاد» المغاربي.

ثالثاً: المسار التضامني الاستراتيجي:
ثالث المسارات: وينصب على المسار التضامني الاستراتيجي، بانخراط المغرب، منذ الحرب العالمية الثانية، وهو لا يزال يرزح تحت وطأة الاستعمار، في دعم قضايا السلم والحرية والعدالة، ومناهضة الحرب والعبودية والاستغلال.
وفي هذا الاتجاه، يمكن قراءة اللقاء التاريخي الذي جمع بين جلالة المغفور له محمد الخامس بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (Franklin Roosevelt) والوزير الأول البريطاني ونستون تشرشل (Winston Churchill)، بمدينة الدار البيضاء في يناير من سنة 1943. فقد كان هذا اللقاء التاريخي مناسبة سانحة للتأكيد على أهمية مقتضيات «الميثاق الأطلسي»، المكرسة لمبادئ الحرية والعدالة والسلام في العالم من جانب، وللمطالبة باستقلال المغرب، استناداً إلى هذه المبادئ ذاتها من جانب آخر.
وهو نفس التوجه الذي حدا بالراحل محمد الخامس إلى مراسلة الرئيس الأمريكي، داويت ديفيد إيزنهاور (Dwight David Eisenhower)، لمطالبته بمساندة الولايات المتحدة الأمريكية لقضية الشعب الجزائري المكافح من أجل حريته واستقلاله، بل إن المغرب انخرط بكل قواه في الحركة التضامنية العالمية، لدعم الشعب الجزائري والشعوب الإفريقية، سواء بدوره النشيط في حظيرة الأمم المتحدة، أو بدوره النضالي المميز في حظيرة حركة عدم الانحياز…
ويشكل هذا الميراث النضالي للمغرب، على الصعيدين الدولي والأممي، الأرضية الصلبة لانخراطه اليوم في مواجهة التحديات العالمية التي تواجه إنسانية القرن الواحد والعشرين…
إن إنسانية هذا القرن تواجه اليوم تحديات متطاولة، وتعاني من مُفارقات متفاقمة، سواء فيما يتعلق بمخاطر الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغيرات المناخية، أو فيما يتعلق بتنامي النزاعات الدولية وتفاحش ظاهرة الإرهاب، وما يتولد عنهما من أزمات بشرية، إنسانية، أو فيما يرتبط بمآسي الهجرات البشرية: جنوب – شمال، وشرق – شمال، وغيرها من التحديات المروعة، المهددة لأمن واستقرار وسلامة البشرية.
والمغرب حاضر بقوة ومثابرة في الجهود الأممية والدولية من أجل احتواء هذه الإشكاليات العالمية الكبرى: إشكالية الإرهاب بطابعة المتوحش، ومعضلة التغيرات المناخية التي باتت تهدد الحياة البشرية على كوكب الأرض، وإشكالية التنمية، في سياق برنامج الأمم المتحدة، لـِ»التنمية المستدامة في أفق 2030»، وإشكالية الهجرة، في إطار «الميثاق العالمي» من أجل الهجرة وغيرها من القضايا العالمية الحيوية، التي باتت تشرط مستقبل السلام والأمن والاستقرار بالعالم.
ويتموقع حضور المغرب، كما يتموضع دوره في هذه الجهــود الأممية في الطليعة من الـــدول التي تنخـــرط بقـــوة في هـــذه الجهــود من أجــل احتـــــواء التحديــات الكبرى ذات الأثـــر البالــــغ على حياة الإنسانية. ففي المغـــرب تــم انعقـــاد المـــؤتمـــر الــــــدولي حـــول البيئــــــة (COP22: مراكش 7-18 نونبر 2016) من أجل إقرار الإجراءات العملية لتفعيل أوفاق مؤتمر باريس في الموضوع (COP21: باريس 30نونبر-12 دجنبر 2015)، كما احتضن المغرب مؤتمر الأطراف الحكومية (10-11 دجنبر 2018) للمصادقة على مشروع «الميثاق العالمي من أجل هجرة آمنة، منظمة، ومنتظمة»، تمهيداً لمصادقة الجمعية العامة للأمم المتحدة عليه (19 دجنبر 2018).

خاتمة:

إن الإدراك العميق لأهمية حدث 11 يناير 1944، لا يتأتى في نظرنا إلا بقراءته في أبعاده العمودية والأفقية والاستراتيجية؛ عمودياً عبر انعكاس آثاره السياسية والترابية والمؤسساتية والتنموية على الساحة الوطنية؛ وأفقياً عبر امتداداته الإقليمية والجهوية، المغاربية والعربية والإفريقية، واستراتيجياً عبر جدليته الأممية والدولية. ذلك أن مغرب اليوم هو محصلة تفاعلات مغرب الأمس، ومغرب المستقبل هو توليفة جدلية لمغرب الأمس والحاضر.
ومن زاوية هذه الرؤية الجدلية، فإن حدث 11 يناير 1944، بحسبانه محطة مفصلية في مسار الحركة الوطنية، يظل مرجعية أساسية، سياسية، وطنية، وتاريخية، لمسار المغرب الناهض في أبعاده الوطنية والإقليمية والدولية.

الكاتب : السفير محمد الاخصاصي - بتاريخ : 16/01/2019