حلمٌ من صَحْو كاتب، وفي حُبِّ الرِّباطيّاتِ الموريسكيّات

أحمد المديني

بماذا ينشغل الكاتب في الصيف؟ وصلني هذا السؤال من مؤسسة فرنسية معتمدة تريد أن تصنف عقول وميول الكتاب، وربما درجة ذكائهم وكيف من خلال انشغالهم يحضرون أو يغيبون عن مشاغل العالم. عادة لا أجيب عن هذه الأسئلة، تسُدّ بها الصحفُ الفراغ في فصل الصيف، أو لتسرّي عن القراء ـ إن وُجدواـ يقضون العام كلَّه بين مطرقة وسندان واقع طاحن. من حق القارئ أن يتسلّى، وعلى الكتابة أن تحمل له طبق المتعة على مائدة فائدة ما، لا سيما في بلدان عربية أغلب سكانها غاضبون ومغصوبو الحقوق ينوحون وهم يائسون. قلت لمراسلي إن مُتَعي الشخصيةَ تعنيني وحدي، ولي هموم أخرى أنا منشغل بها في النص والحياة ما حييت، وإذا دوّنتها ستجدها على غير منوال وستضجَر لن تظفر منها بمطلبك، قال ليكن. كنت بصدد تحرير نصّ بالفرنسية دعوت مراسلي لتفكيك رموزه وصُغته بالعربية، كالتالي:
رُوي أن حكيما عربيا تخطّفته الجنُّ وطافت به في مناطقها بين أرضٍ وسماء، وزعم أنه شاهد غرائبَ وسمع عجائبَ صار يرويها لبني عشيرته فلم يصدّقوا قوله واستكثروا عليه ذلك متهكمين، حديث خرافة يا أم عمرو! وسُمع عن الشاعر العباسي ديك الجن قولُه:» أأترك لذة الصهباء عمداً/ ِلما وعدوه من لبن وخمر/ حياةٌ ثم موتٌ ثم بعثٌ/حديثُ خرافةٍ يا أمَّ عمرو!» وهذا أنساني ما كنت فيه. كنت أجالس طفلة رباطية أسلوبها في الحديث طريفٌ لولبيٌّ كلغة أبيها الأديب اللطيف. اسمها مَيسان، إذا استعصى عليها أمر، أو تختلف مع نفسها أو أمِّها، هما على طرفي نقيض، تذهب وتجيء في الصالة واضعةً يديها إلى الخلف رافعةً صوتها إلى السقف يعود إليها رجع صدى، وتظل هكذا إلى أن تستعيد كالعقلاء رشدَها أو تحرَن. أنا مثلها. كلُّ شيء مُستعصٍ عليّ لحدّ أني لا أجد، ولا يُشبِعني ما أجد. عندئذ، أستحضرها كجنية رشيقة القلب لو علمت من محبتها يذوب، فماذا أنا صانع بكل هذا الوجد؟ تحملني إلى علٍ تطير بجناحَيْ ملاكٍ وتحُطُّ بي في مجلس مولاتي الهمام، فنحلم ونتكلم بصوت كالكلام، أو بصبيب الغمام، وماذا لو اقتنعنا أن نقول يا سادة يا كرام، الرقباء والعميان، بأن الكاتب في الصيف والشتاء يتقلب على مضجع الوهم والأحلام، لذلك سمَّى الأجداد قوله حديث خرافة يا أم عمرو!
لا نبوءة عندي، وأمِيل للقبض على المفارقة، أضحت نادرةً في وقت يتشابه مع وجوه بلا ملامح، لذلك يبدو أمسِ على مرارته ودمويته أفضل من اليوم. كان للكلام معنى، وللمعنى مستقبل، ولا الأقزام يتسللون ليلعقوا فُتات جفان الكبار، وللحنين نغمٌ ونكهةُ قصيدة، والصدق مثالية. النبوءة الآن تقود إلى خيبتها صوب منافع وقتية، فنجهل إلى أين نمضي حائرين بسؤال الشغف، ونصرّ على المُضيّ وليكن إلى العدم، لذلك لا أعيا من ترديد السؤال وأن أصرخ بالغضب الذي فات، والموت الذي من طول ما استقرّ مات. لكني إن كنت لا أعوّل مع غيري على قادم، نحن الذين وضَعنا بيضنا منذ عقود في سلة وجاءها ثعلب فأكل الحمائم، فإني لا أريد أن أُفسد أي حفل، هذا الصيف خاصة، الأفضل أن أمضي فلا أُعدي بقُرحتي الرومانسية.
إنما، تعالوا معي أشرح كيف أرى المنفعة. ذلك أن افتراضي كاتبَ سردياتٍ أو روائياً أساسا، يطرح عليّ الوعيَ بما أفعل، من باب الإدراك قبل التخييل. غير أن إدراكي الروائي ينشدّ إلى الماضي، إذ لا رواية بجدٍّ وصوابٍ إلا عن زمن اكتمل، أو هي روبورتاج وتعليق. كما أن الشغل الأساس للروائي هو أن يَسُدّ ثقوب الماضي بتخيّل ما فاته بطريقة مُثلى، خلاّقة. ليست الرواية بهذا المعنى هي الخيال، بل وعيُ العالم باستعادته متخيّلاً واستشرافه ما أمكن. الآن، حين أتطلع من شرفة نصوصي وهي خلفي ومن حولي، أضطر لإعادة طرح السؤال القديم صار عقيماً بعد أن لم ننجب: ما العمل؟ تفهمون، أعني جيلا عاش الوطنية، والنضال، والقمع، والالتزام، وخيبة الأمل؛ وها هو اليوم على حافة صمت رهيب كأنما بُتر منه اللسان، وربما يحلم في اليقظة بكلمات جفّ معناها فكيف برحيق الروح. رغم ذلك شعاعُ الأمل يثقُب سحابة اليأس، أي المعنى الإيجابي للمنفعة، ومن موقعي أقول يحتاج إلى المثقف وعلى الكاتب أن يُشغّل النصف المفكّر فيه، علما بأنه ليس كائنا مجنّحاً بل قدماه راسختان في الأرض.
المثقف بلسان النوبلي كينزابورو(1994) هو الشخص الذي يستطيع وينبغي أن يتكلم كهاوٍ خارج حقل اختصاصه ليُذكِّر بوجود طرق أخرى للنظر ولتصوّر الواقع تختلف عن المتداولة في الخطاب المهيمن. منها الاعتراض على السائد المبتذل، المدجِّن والمكبِّل للإبداع. ومع نوبلي آخر، هارولد بنتر(2005) نقبض على مقولة أن الفرق بين الإبداع والسياسيين هو أن الإبداع يقوم على البحث عن الحقيقة بينما صارت السياسة ملعبا للكذب وما يميز بينهما هو الحقيقة. طبعا، هذا مفهوم إشكالي ونسبي، إنما يسمح للكاتب بأن يحشر أنفه في ما هو أكبر. بواسطة الخيال، من بين أدوات. وأنا في مجرّة حلمي آمنت أن الأدب لا يتعالى على التاريخ وإنما هو من صميم معركته، وبعبارة بنتر، فلكي أكون كاتبا لا بد أن أكون مواطنا، أولاً.
بذا، فأحلامنا وُلِدت مِنّا، وغدُنا يسير معنا حذوَك النّعل بالنّعل، رؤىً ورؤيات. الباقي أتركه للمفوهين حملة أبواق الكلمات الكبيرة يتنطعون بأنهم يملكون الحقيقة مطلقة، وهؤلاء لا يحفلون بالشعراء والروائيين، اللهم سلعةً يبتذِلون. هم في غنى عن المجاز والحبكة، لأنهم أصحاب الحل والعقد يزعمون. لذلك معشر المبدعين اعلموا أنهم زائلون وعلينا أن نتمسك بشرارة اللغة ومنجل المعنى المجبول من صلصال الحق والرفض للكذب والتدجين أو ستبقون راقصين في الحلبة. وأنا في طريقي إلى المستقبل التفتت ناحية ميسان صارت سيدةً هيفاء، أراها تطل من شرفة حاضرها وإلى جانبها طفلة تشبهها وهما معا ينظران إلى الأفق حيث مغيب الشمس. أشارت ميسان إلى صغيرتها قائلة: أترين ذلك الشفق الأخير، إنه عمو أحمد المديني، إنه يلوّح لنا وهو ذاهب، فعلينا أن نودعه بما يليق بنا نحن الرباطيات الموريسكيات، ونتمنى له رحلة سعيدة، لو تعلمين كم أحبنا؛ وانظري، فقد ترك لنا اللون الأرجواني، وبعد قليل ستسطع النجوم، ومعنى هذا أن غداً سيكون صحواً والسماءَ سنراها زرقاء صافية الأديم.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 24/08/2022

التعليقات مغلقة.