«حَفلُ تكريم»ِ الجيران لضيوفِهم «الأشِقّاء»، عربونَ وفاء!

أحمد المديني

 

لا أسوأ من التفكير والكتابة تحت وطأة الانفعال، وبسورة الغضب، يُعمِيان، ويخرجانك عن طورك، ويسُدّان دون العقل والتبصر كلَّ منفذ. هذا في الشأن عام، فكيف إذا مُسّ المرء من نعرة أو في شعرة تنال من وطنه ومثله التي هي من صميم مشاعره وعقيدته نشأ بها وتربى وعليها ترعرع. كذلك وجدتني غداة يوم الجمعة الماضي في خضم غضب عارم كأنها حِممٌ تخرج من فوهة بركان. واحدةٌ فاضت مني، والأخرى تدافعت على ألسنة الناس، الشعب، أنا فرد منه ولا يمكن بأي حال أن أتنصل مارقاً من إحساسه، ولو اختلفت معه لهذا السبب أو ذاك. أعيني، لا أهادن سلفا في مبادئ ومواقف محددة، وثمة ما يعلو علينا مواطنين من الرموز هي أقرب إلى الفطرة لا نخضعها لمنطق الصواب والخطأ، في قلبها سيادة الوطن والذَّود عن حريته وكرامة شعبه دونها، بعبارة المتنبي، نارُ حرب توقَد.
عندي، لا ينبغي أن نكُف عن التذكير بهذا وترديده في الأوقات كلِّها وبالإلحاح عليه زمن الشدة خاصة، ونحن اليوم مع المسألة الوطنية في شدة، ولو غفل عن ذلك معدودون نخبة ومصطفون غالبا مع أنفسهم بأنوَياتهم الضيقة، الشعب اليقظ العام الذي تتبجح بدراسته عليها أحرص. هذا ما فطنني إليه، والحقيقة هيّجني معه عمر التمسماني، أرسل لي ليلة الخميس وأنا سأغمض جفني، شريطا قلت أتسلى به قبيل رحلة النوم فإذا بي من أول صورة أرى وأسمع ضجة ولم أفهم إلا متأخرا أني أشاهد ملعبا لكرة القدم تركض الأرجل فوق عشبه تحت أضواء قوية، وعلى المدرجات المحيطة جمهور كبير واقف يصرخ صرخات هوجاء شاتمة ومحرِّضة، لك أن تفهم في الحين أنها من قبيل ما يحدث في الملاعب انتصاراً لفريق ضد فريق وقد تؤدي إلى عصبيات ومشاحنات مما غدا مشتهراً اليوم في البلدان بين هواة كرة القدم.
غير أن ما أرسل لي الصديق التمسماني، ولا أعرف لماذا اعتدى عليّ وأنا سأغمس لقمة شهية من عسل الليل. لم يفعل الرجل بنيّة العدوان وإنما بحثا عمن يشاطره همّا أثقل عليه، ولمعرفتي بوطنيته فقد فاض به الحال، فاستنجد يجرفني مع مَدِّ غضبه، وقد كان كذلك، واجتاحني فأرّقني، وغداة الجمعة كان السّيل العرم. رُبّ قائل بعبارة فرنسية تستخدم في هذا المقام pourquoi bon tourner autour du pot اذهب إلى القصد مباشرة. والحق أن تأجيلي وضع الأصبع على الجرح الجديد سبّبه لنا من يواصل بعضنا يسميه (الجار الشقيق)، بينما سهامه إلى الصدر وطعنه عميق، ولم يكن هذه المرة بغتة ولا غيلة، ولكن تحت الأضواء الباهرة لملعب كرة القدم في وهران على أرضيته تجري المباراة النهائية لما يسمى كأس العرب لما دون السابعة عشر، قل للفتيان. فهي رياضة، لعبة بحكم قانونها لا بد فيها من رابح وخاسر، وتواجه فيها الفريق المغربي بالفريق الجزائري وأحرز هذا الأخير النصر بعد ضربات الترجيح، أي بشق الأنفس.
مبارك مسعود، لكن البلد المضيف، فريقه الفتي وجمهور الشعب الشقيق، أنعته هكذا مؤقتاً لخاطركم، أبَوا جميعا إلا أن يقلبوا العرس إلى حرب ضروس، بعد تسجيل إصابة يتيمة تؤهل العرب ضد العرب والحمد لله، بعد ضربات الترجيح نزلوا بهجمات الركل واللكم على اللاعبين الفتيان الخصوم، سوّلت لهم نفوسهم السوداء، وبتحريض مسبق وشحن بغيض أنهم مجاهدو جبهة التحرير الوطني يخوضون معركة أخيرة في جبال الأوراس ضد المستعمر الغاشم، وما كان أمامهم وفي حياضهم إلا فتيان أشقاء من بلد جار حرص على المشاركة حِفاظاً على شعرة معاوية رغم إغلاق الحدود في وجهه، ومنع خطوط طيرانه من التحليق في أجوائه؛ وكنت بعد أن شاهدت شريط الغزوة المظفرة لفتية الجزائر وكيف نزل جمهور الشعب الوهراني الشقيق (أليس كذلك؟!) من المدرّجات بعد أن قضى وقتا في شتم المغرب والمغاربة ورموزهم بكراهية مقيتة؛ نزلوا ليمدوا أيدي وقبضات وسواعد العون لإخوتهم في توجيه اللكمات لفتياننا فطِنت لاحقا أنها طريقتهم لإكرام الضيف، وزاد عمر التمسماني فنبهني من غفلتي إذ كلمني يحمد السلامة للفتيان المغاربة العُزّل، ويزيد قائلا: (رُبّ ضارة نافعة)، تصور لو أن فريق بلادي انتصر وتأهّل لهذه الكأس المشؤومة، وإذن لقتلوهم فداءً للمليون شهيد!
حين نزلت إلى الشارع غداة هذه المهزلة، واختلطت بالمغاربة أشقائي الحقيقيين، لفحتني نيرانُ غضبهم ، كبارا وصغارا، شيبا وشبابا، غيظُهم لا تتسع له الصدور، وألسنتُهم شواظ لعنة وتنديد بمن اعتدى على أبنائهم وإخوتهم، يحسون بالمهانة ويحارون كيف يصرفونها، كما لا أعرف كيف أصرّف مكبوت ذكريات مُمِضّة مع قوم لم يعد خاطري يستسيغ أن يسميهم، وكلما جالست صديقي المثقف وخبير الكتاب اللامع عبد المجيد بن يوسف الذي ألقبه بـ (الواسْطي) أراه وهو الصلب الصبور يغالب الدمع ويكظم الغيظ، كيف وهو المغربي الأصل حصدوه وأسرته في الشارع ورموهم إلى حدود «جوج بغال» ربّنا خلقتنا ونهبوا مُلكهم وسرقوا أعمارهم في تلك السنة السوداء عليهم البيضاء علينا عندما قرر المغرب استرجاع صحرائه، ومن يومها وهو يخوض معركة الوحدة الترابية، فيا أيتها الأجيال الحديثة إن عشرات الآلاف من المغاربة طُردوا وشُرّدوا لكي تمتد سيادة المغرب اليوم من طنجة إلى الكركرات. وسأنسى ما حلّ بنا نحن الذين أردنا عبور الحدود من جوج بغال إلى وجدة وكنا أطرا وأساتذة صيف 1972 فحُجزنا قبل العبور بسبب ظهور الكوليرا وتوجّب علينا التلقيح(من أين؟) وقضينا عشرة أيام شبه جياع مرميين في الخلاء بيننا أطفال رُضّع نلتحف السماء كما يكتب في الإنشاء، ولمن يريد تفاصيل هذه المأساة الرجوع إلى روايتي» ظل الغريب» ليقرأ هَوْلا.
وبعد، فإن العبد لله لا يحرّض على عداء بين شعبين وبلدين، وإنما يتحدث بلسان عام لا يقبل الضّيم ويرفض أن يستكين للهوان والاستغراق في هموم ذاتوية نرجسية كتلك التي تلطخ جدران التواصل الاجتماعي، أو الانسحاب من هموم الوطن بدعاوى منها رفض سياسات ووقائع. أيها السادة، الكتاب والجامعيون والمثقفون والنخبة المفترضة، بإجمال، ينبغي أن نعرف كيف نفرق بين أزمات الداخل وطرق انفراجاتها، وبين ما يمس مقومات وجود الوطن وصوْن السيادة، ولم يعد لنا في هذا خيارمع الخصوم والأعداء، وهم جادون في خطط الحصار.
سأحكي لكم ما علمت قبل يومين من صديق شاعر عربي من بلد أحبه وهو يحبنا بإخلاص:
قال لي بالحرف إن جهة جزائرية رسمية اتصلت به وراسلته ولها وسطاء (لم أكن أعلم أن بين الأدباء سماسرة وقوادين في السياسة!) تطلب منه بعد الاطلاع على وثائق، الانضمام إلى أطروحة شعبها الصحراوي وجبهته الوهمية، وهناك حركة ينشط فيها أشخاص من عاصمة مشرقية لترويج هذا الادعاء وكسب الأدباء العرب إليها تمهيداً لعقد مؤتمر عربي كبير في الجزائر لما تسميه (نصرة شعبها المزعوم. أبَعد هذا يوجد مع هؤلاء القوم كلام؟!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 14/09/2022