دارُ المغرب في باريس: مقدماتٌ عن مَعْلَمَةٍ تاريخيةٍ مُعْضِلة

أحمد المديني

للطلبة المغاربة في فرنسا، في باريس بالذات، تاريخٌ غنيٌّ معرفةً وتكويناً وسياسةً وصراعاتٍ إيديولوجيةٍ وانغماساً في المعمعة الوطنية والمعتركات العقائدية الفرنسية، والشؤون الدولية. يكفي أن نعلم بأن من أبرز رواد الحركة الوطنية وبناة النضال من أجل التحرر والديموقراطية لبلادنا طلاب درسوا في باريس وتخرجوا من جامعاتها وفيها شكلوا هياكلَ منظمة ونواةً صلبةً للكفاح من أجل استقلال المغرب ومواجهة المستعمر في عقر داره. إنهم مؤسسو جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين( AEMNA المعروفة ب115 نسبة إلى عنوان مقرها التاريخي الشهير قي الرقم 115 شارع سان ميشال) التي تُعدُّ مدرسةً سياسيةً أنجبت زعامات المغرب العربي وفكرةَ بنائه والنضالَ المشتركَ من أجل الاستقلال باستراتيجية ومذاهب متقاربة.
إلى القاهرة ودمشق وباريس توجهت البعثات الأولى لِما ستتولد عنه النُّخبُ المغربيةُ الأولى، وفي العاصمة الفرنسية بالذات تبلورت بواكيرُ إنتلجنسيا سعت إلى إكمال دراستها العليا وفي الوقت أرادت الإقامة الفرنسية العامة إعدادها لمناصب ومواقع حالية ومستقبلا، وكذلك كان. ولهذه الغاية فإن الطلاب القاصدين باريس احتاجوا إلى مأوى وفضاء استقبال ليعكفوا على دراستهم ويهيؤوا شهاداتهم، ما تفطنت إليه باكراً الإقامة وسعت لتوفيره. من هنا فكرة ومشروع بناء دار خاصة للمغاربة داخل المدينة الجامعية الكبرى جنوبي باريس طرحَها المقيم العام الفونس جوان سنة 1947 لتُفتَتَح بعد مساع ومناورات في أكتوبر 1953، أي في فترة كالحة من تاريخ المغرب شهدت حادث تنحية الملك محمد الخامس عن العرش شهرين قبل ذلك على يد المقيم العام الجنرال غيوم الذي قوطع من طرف أوائل المقيمين في الدار عند قدومه لتدشينها هو الذي ظن ومن خططوا لجعلها بيئة محصّنة لمراقبة الطلاب المغاربة وعزلهم عن شؤون بلادهم، فإذا بها منذئذ تصبح مركزاً للوطنية وتعبرها سائرُ التيارات والمواقف الراديكالية.
مضى سبعون عاما ونيف على تأسيس هذه المعلمة البارزة ضمن المدينة الجامعية الشاسعة في باريس، عبرت فيها أجيالٌ، وأقام في غرفاتهِا وجنباتِها عشراتٌ من عناصر النُّخب الأولى التي تسلمت دفة مناصب عليا في الحكم، وأخرى تصدّت لمهام استكمال التحرير ومعارضة عنيدة خاضت معركة المطالبة بالديموقراطية وبناء الدولة الوطنية؛ وفئة ثالثة ثوريةٌ جذريةٌ بالكامل. أفرادٌ انضووا وهم طلاب في تنظيمات طلابية وحزبية ونقابية، فكسروا مبكراً قالبَ الحياة الدراسية التي انتقلوا من مدنهم وقراهم المغربية لعيشها في مدينة الأنوار كي يعودوا مدجّجين بالشهادات، فإذا بعديدين اعتنقوا وتسلحوا بمبادئ التغيير، الثورة ضد الفساد والاستبداد جاعلين من بناية، تراوحت غُرفُها بين مائتين وثلاثمائة، حسب مراحل وتقلبات وقاطنين، بهذا العدد وأربعمائة وعشرات آخرين أقاموا فيها سريين ومتسللين، قلعةً حصينةً للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أولا، وبؤرةً لتنظيمات يسارية وديموقراطية كان الاتحاديون غالباً أقواها، ثم منبرا لنقاشاتٍ فكريةٍ وسجالاتٍ سياسيةٍ ومعاركَ لا تنتهي تقلبت فيها الدارُ على مدار حقب.
هي السلطات الاستعمارية التي أنشأت وبَنَت داخل تراب المدينة الجامعية التي تحتوي على أربعين دارا وفي الركن الشرقي الأقصى منها المبنىَ الذي يقع في رقم 1 من شارع جوردان بالدائرة الباريسية الرابعة عشرة، وتتكون من رواقين(A) الأساس، والجناح أو الرواق الثاني الحامل لاسمين(زليجة) ووالتر، نسبة للشخصية التي موّلت بناءه ضمن ميثاق مؤسسة له. في بداياتها كانت هذه المنشأةُ خاضعةً وموجهةً من طرف الإدارة العامة للمدينة الجامعية ووفق قوانينها الداخلية وبإشراف عمادة باريس، منتقلة من إطار قانوني وُضِع لها في يوليوز 1949 إلى آخرَ معدُّلٍ في 8 يناير 1964 وبتسيير وتمويل فرنسيين ومجلس إدارة، لتنتقل بعد الاستقلال بسنوات إلى إشراف المغرب الرسمي وإسهامه في ميزانيتها، مع النّص على أن يُسند منصب المدير لجامعيٍّ وهو ما شُرع في تطبيقه منذ منتصف الستينيات وصار تقليدا أن يتولى الإدارة عمداءُ أو أساتذةٌ جامعيون ذوو خبرة في الميدان تعيّنهم الدولةُ المغربية وتصادقُ عليهم المديرية العامة للمدينة الجامعية لها حقّ النظر حسب بنودٍ محددةٍ، وهذا قبل أن تتحول دار المغرب إلى منشأة بذاتها لا ملحقة مثل دور عديدة أخرى داخل حرم التراب الجامعي وإن ملزمة بتدابيره.
تبدو هذه معلومات إدارية في أغلبها لكنها ضرورية لمن يريد معرفة تاريخ مؤسسة عرفت مخاضا طويلاً وعسيراً من الحسابات والمناورات قبل أن يوجد الموقعُ المناسبُ لها ويُحفر أساسها ويُشرع في وضع تصاميمها ورصد الميزانية الكافية لإرساء أعمدتها وبناء جدرانها الأولى، ليَنهض بناؤها شاهقاً بستِّ طوابق وهي تتمتع من خارج أولا بهندسة معمارية مدخلُها أندلسيٌّ مغربيٌّ علامة ارتباط بأصالة، وداخلَها بهندسة عصرية وكذلك بزخارف وعلامات ومعالم من قبيل حمامها الشهير، أُريدَ لها أن تجمع بين تليدٍ وطريف، تقليدٍ وحديث، طبعا بحُكم وجودها فوق التراب الفرنسي، وجوهراً لأنها تحمل اسم بلد يرتدي الجلباب والكسوة العصرية وحين دخله الأجنبيُّ وفرَضَ عليه نظامَ الحماية وشرع في تحديث معماره وإرساء مؤسساته لم ينجح في سلب روحه وأُرغم على التكّيف مع تاريخية تقليدانية عميقة الجذور بأشكال وألوان.
ولسوف يظهر أن الخلافاتِ التي سبقت قرار إنشاء دار للطلبة المغاربة في باريس لإيوائهم أصلا من أجل متابعة دروسهم والتكوين في ميادين تأهيلهم لغد بلادهم وحسابات ما بعد الاستعمار، أيضا، إنما كانت مقدمات وكوامنَ للغيلان التي ستخرج من هذا القمقم العجيب وتقضَّ مضاجعَ السلطات الفرنسية والمغربية على حدٍّ سواء، وهذه الأخيرةُ خصوصا حين انتقلت إليها قانونيا مسؤولية الإدارة والإشراف لتقبض على الجمر، وتواجه حركة معارضة جذرية، بطبيعة مركبة وهجينة، طلابية تنظيماً شكلياـ وسياسيةً إيديولوجيةً نضاليةً مناهضة للملكية في الداخل جوهرا وممارسة، وموازيةً في الوقت نفسه لما يجري في الداخل كما لو أنها حكومة في المنفى، وبما أنها في فرنسا بلد الحرية والديموقراطية فقد كانت تتمتع بأدوات العمل والمَدَد والنُّصرة وتستعصي على الكسر. لذلك الحديث عن دار المغرب في باريس هو إلى حدّ ما أحد ملامح الصورة الكبرى للتاريخ السياسي المغربي الحديث، بين الاستعمار والاستقلال وصولا إلى الألفية الثالثة، وهو ما سنعرض له في مقالتنا القادمة مع كتاب خاص.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 01/02/2023

التعليقات مغلقة.