درسٌ آخر في كيف تُكتب الرواية وتَرى بها العالم 3/3

أحمد المديني

 

أطلعتكم في الأسبوع الماضي على خلاصة المحاضرتين الأولى والثانية في سلسلة الدروس التي دُعي الروائي التركي أورهان باموك والأستاذ في جامعة كولومبيا بنيويورك لإلقائها في الكوليج دوفرانس الصرح العلمي الرفيع في فرنسا كلها، وخصصها لفن الرواية. هي أدب هذا العصر بلا منازع، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت تزاحم الشعر وتخلق جمهورا مختلفا من القراء ولدوا في ظروف اقتصادية واجتماعية بنت الثورة الصناعية وتحولاتها وانعكاساتها على سلوك ونفسيات فئات المدن أبناء الطبقة الوسطى خاصة، لحدّ أن اكتسحت باقي الفنون الأدبية وأصبحت التعبير الشامل يطمح الكتاب لارتقاء سُلّمه وهجر الشعراء قصائدهم أو عافتهم لحجز مكان في فسيحها. أما باموق فهو روائي منذ نعومة أظفاره في الأدب، سلخ خمسين عاماً يكتبها ورصيده منها بوأه صدارة قومه وبين كبارها في العالم ليتوّج بنوبل للآداب( 2006) لفنه وقدرته على رسم لوحة تاريخية اجتماعية لبلاده تركيا تغوص في الجذور وتعرف بها وبمصائر شعوبها وأزمات الأفراد في سياقها بعمق إنساني. هذا هو الأدب الذي نحتاج إليه، وهو ما حرص باموق على درسه نظريا واختباراً بأستاذية.
في المحاضرة الثانية(16 مايو) المبرمجة دائما بالكوليج في اختصاص كرسي الأدب المقارن، وحجّ إليها مبكراً كسابقتيها جمهور غفير، انكبّ أورهان باموق على درس موضوع يسميه (مفارقة الروائي) يبنيه على قراءته الموسوعية لأعمال أسلافه المؤسّسين، ومن وحي تجربته الكتابية الممتدة. يعتبر بدءاً أن التمكنَ من فهم هذه المفارقة والسيطرةَ على طرفيها هما الأداة والسبيل لكتابة رواية قوية وناجحة، يوجه النصحَ هنا للناشئين، وعينه مسلطة على متون تولستوي، توماس مان وفرجينيا وولف ومرجعُه الثابت فوكنر، سبقت الإشارة إلى اعتماده للبداية فكرةً أو صورةً ذهنية. جيد، لكن المسألة تكمن في ما يحصل من توتر بين العنصرين، هنا مفارقة الروائي. يشرح باموق، في كونه عندما يعتمد على الفكرة أساساً فإنه يفقد فاعلية الرواية. ولو اعتمد الصورة، الخيال فقط، فستفتقد الرواية عندئذ سَنَد الواقع، ستفتقر إلى الحياة والإنسان. إن ما يجعل الرواية مقروءةً هو تفاصيل الواقع، وترى القارئ فيها يتساءل ما هي حصتُه وما هي حصة خيال الروائي. الروايات السّير ذاتية والسيرة الذاتية يسقط فيهما التناسب وتغرقان في خيال صاحبهما، بينما الرواية المعتمدة على الفكرة تُعدّ تربوية وتلقينية، والمثالي هو حدوث التوازن بين الفكرة والخيال ووجود حركة ذهاب وإياب وتناقض بينهما، أيضا. هل هذا ممكن دائما؟ يكاد يكون مستحيلا في عشرة آلاف ورقة، وحده استاندال حققه في « La Chartreuse de Parme» (1839) في خمسين يوما كتب رواية مذهلة بموهبة عظيمة.
ثمة وجهٌ آخر من مفارقات الروائي، يتمثل في موضوع الذاكرة وتسجيلاتها وعملها في نصَّه، لنتعرف على قيمته لنسأل القارئ ما هي الأشياء التي علِقت بذهنه ويتذكّرها وأحببتموها؟ سنجدها ضئيلة مما يدفع الكاتب ليسأل لماذا يكتب كل تلك الوقائع والتفاصيل التي يجهد في جمعها إذا كان القارئ ينسى أغلب ما كتب؟ الجواب يأتي من مكان آخر، وهو أن وظيفة الروائي الحفاظ على الذاكرة، على التقاليد والحيوات والبلدان والهويات واللغات والأفكار، إن الرواية شبيهة بمتحف نتجول فيه ولا نتذكر بالضرورة كل ما رأينا لكن المتحف موجود والأشياء ـ التفاصيل ـ محفوظة فيه، والشكل الروائي متحف، أيضا، والروائي يرفض التخلي عن تفاصيله لأنه مثل محافظ المتحف ومعنيٌّ بالإبقاء عليها، هذه هي الفكرة عند فوكنر.
من مفارقات الروائي الأخرى، التي وقف عليها باموق، هي على درجة كبرى عنده من الأهمية ويرى في ضبطها رأسمال وضمان نجاح الرواية، إذ ماذا بعد أن يكون قد سيطر على الحبكة والأحداث والتفاصيل والشخصيات، وما شئتم؟ الأهم والهدف هو تحقيق المتعة للقارئ، ومتعة الرواية هي في ما تثيره فينا من مشاعر وأحاسيس. يحب القارئ رواية تولّد في نفسه انفعالاتٍ وتقدم له عالماً بديلاً والعالمَ الذي يعيش فيه كوجود آخر. هكذا غير كافٍ لإنجاز رواية بمقتضيات واقعية مقنعة وجمالية بارعة، وإنما أن نتأكد أنها ستثير في القارئ مشاعر معينة، وهذا يتطلب عملا متقناً جداً بمقدار حرص الملحن على ضبط نوتاته ليصنع لحنا متناغماً، وتذكّر النص عند القارئ هو ما يخلفه كذلك من وعي وتأثير. يعترف باموق أخيراً حسب تجربته أن الذاكرة والخيال مترابطان والحاذقُ من يربط بينهما. اختصت المحاضرة الثالثة (24 مايو) بدرس عماد رئيس من أعمدة الرواية، إن لم يكن في نظر جمهرة الدارسين وعموم القراء أهمها وركيزتها، هو الشخصية، بدونها لا نتخيل كتابة لهذا الجنس، ومن قوته أصبح له نوع رواية الشخصيات، ومعلوم أن هذا الفن في القرن الناسع عشر شهد حفاوة بالغة بها ويمكن استعراض ما نشاء لنجدها مهيمنة عند روائيي هذه الحقبة التأسيسية الحاسمة مثل بلزاك وستاندال وفلوبير( توجد قرابة 6000 شخصية في روايات بلزاك المسماة الكوميديا البشرية) ومنها ما يحمل عناوين مثل (مدام بوفاري) و(سيرانو دو برجوراك)و( الإخوة كرمازوف) . نعلم كذلك، في تحليل الدارس، أن هذه الشخصية المركزية في القرن 19 التي حازت البطولة بدأت تفقد هالتها وبطولاتها جرّاء ما اعترى الإنسان من تطور لتتحول إما إلى مكوّن من بين مكونات العمل الروائي، أو تتغير هويتُها واعتبارُها، فقد ظهرت في النسيج الاجتماعي ومنه إلى السردي الشخصية الغُفلُ والإنسانُ العادي، ومنه ما اصطلح النقد على تسميته ب(البطل ـ الضد)، هذا الهشُّ كما نجده عند بروست، وذاك الذي اختاره جيمس جويس في ملحمته الروائية (عوليس)(Ulisses)(1922). إنه (ليوبولد بلوم) الموظف، نتتبع حياته في يوم واحد فقط في مدينته دبلن، وباستخدام التقنية الجديدة تيار الوعي ربطه بالأسطورة اليونيانية، أوديسة هوميروس وبطله عوليس. إلى أن نصل إلى إلغاء الشخصية ، عند روبرت ميوزيل في ثلاثيته الروائية الفخمة(رجل بلا صفات) (1932).
لا يغفل أورهان باموق عما تعنيه الشخصية عند القارئ من مكانة وجاذبية ورغبة شديدة من جانبه، مرة ليتماهى معها فتخرجه من وضعه المحدود وتبث فيه روحا وتمده بأحلام وقوى لم يحُزها فتغدو امتداداً له وكمالَه الناقص، ومرة ليرى عالماً آخرَ مستجِدّاً بعينيها يوفره له الكاتب، وهذا هو دورُ الشخصية، ويتباين حسب الضمائر المستعملة من المتكلم إلى الغائب، وهو تعوّد على تقاليد قرائية، لكن هذه تطورت اليوم مع التجربة الإنسانية وعالم تعقد تجددت تقنيات السرد. هنا يصل باموق إلى أطروحته بشأن الشخصية في الرواية، يضعها في المقام الثاني أو إحدى المكونات، موليا الأهمية لما يسميه المحفل الاجتماعي والبشري والثقافي، واختصارا( le paysage)، هذا المحفل نراه مرسوما ومنتقدا من عيون الشخصيات وهو يؤثر عليها، من هنا اختلفت وظيفتها ومن هنا أيضا تغيير زوايا النظر أو مواقع السارد. لتبقى الفكرة الموجهة(فوكنر) عماد الرواية، وضبط حبكتها، وبطبيعة الحال صياغة قُل صناعة الكاتب للغته وأسلوبه ينقل كل شيء، وهذه مجتمعةً ضوابطُ يحتاج الناشئون للتحكم فيها بدقة.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 14/06/2023

التعليقات مغلقة.