درس وباء كورونا

مصطفى خُلَالْ

 

زعزع وباء (( كوفيد – 19)) الحياة اليومية للإنسان في كل بلدان العالم. قلب رأسا على عقب كل برامج الحكومات التي نامت على حال واستيقظت على نقيضه. ولم يجد الحكام في كل الدول، قويها وضعيفها، أسلوبا آخر لممارسة السلطة وإخضاع الناس لإجراءات تؤمن صحتهم وتضمن أمنهم الاجتماعي سوى حالة الطوارئ. وبدت الحكومات تسن في كل مناسبة قوانين طارئة تصب جميعها في تشديد الحكم حتى بدت كما لو كانت حكومات مستبدة والناس تحت وطأتها كما لو كانوا خاضعين منبوذين مسلوبة إرادتهم، ومقهورة رغباتهم.
أضحت الإرادة، باستثناء تلك التي تعود للسلطة، مسلوبة، وعاش الإنسان كما لو سقطت عليه بصورة مفاجئة أقدار حرب لا قبل له بمواجهتها. والحال أن الحرب المسلحة على فظاعتها ولا – أخلاقيتها، لهي أقل قهرا من قهر الفيروس المرعب. وكما في الحرب لم يعد الناس يتبادلون في مكالمات هواتفهم، سوى حديث واحد وحيد، حديث عن الوباء وفي الوباء… أما في كل أصناف وسائل الإعلام فقد بات الخبر الوحيد الأوحد هو الفيروس وكيفية مواجهته بالنسبة للذين لم يضربهم. وصار واحدا من بين أهم ما يقض مضجع السلطات العمومية هي أن تواجه الخصاص العام والخاص معا، والذي تعرفهما المستشفيات من أجل استقبال ضحايا الفيروس، وأصبح تعب الأطباء والممرضين الشديد والضغط القوي على موظفي المؤسسات البنكية خوفا جماعيا حتى لبسطاء الناس.
هكذا أصيب الشغل وفضاءاته، والإنتاج ومصانعه في مقتل…فانهارت الدورات الاقتصادية أو كادت. وأصبحت ضرورات الاشتغال عن بعد الناتج عن احترازات العزل والاعتكاف القاسي عملا قهريا يتطلب الكثير من طاقات التحمل والجلد المضني. وفي ميادين التعليم والتحصيل اضطر المعلم والمتعلم إلى التفكير في أساليب ومناهج جديدة علهما يتمكنان من تحقيق ولو الأدنى مما هو معهود كأهداف تخص التحصيل. وفي هذا الميدان كما في غيره اشتدت الحاجة لتقنيات التواصل الرقمية حتى أنها صارت هي السبيل الوحيد للعمل. فلقد توارت جميع الأنشطة والممارسات الدينية التعبدية الجماعية، ومعها الأنشطة الثقافية والمسرحية والسينمائية والفنية والموسيقية والاحتفالية والرياضية وغيرها كثير إلى عوالم من الانحسار الاضطراري طارئة، لم يكن ممكنا حتى تخيلها …
وعلى المستوى الشخصي تضاعفت عزلة الفرد، وتقوى انكماشه، وترسخ اعتكافه في المنحسر من فضاءاته المعهودة. . . لا يبرحها إلا للضرورات القصوى.
باتت الحرية بعيدة عن أن تكون مطلبا وجوديا للفرد، وقدرا حتميا للحمة الكينونة الجماعية. ومضت حرية التنقل خاصة والسفر عموما أملا مُضنيا بعيد المنال، أقرب إلى حلم مستعصي التحقق.
لا حصر لما استجد في هذه الأزمة الإنسانية الكبرى، في كل الميادين وعلى جميع المستويات. يحلل السياسيون وكبار الصحفيين ذلك يوميا في منصات الإعلام. وينبري الاقتصاديون الذين لم يعودوا قادرين على إيجاد الحلول لمعضلات التوازنات الكبرى، وانزووا مكتفين بممارسة الملكة التي يبرعون أيما براعة في إتقانها، ملكة التنبؤات بمستويات الخسارات ومعدلات الانكماش وآثار الانهيار على مستقبل الماليات العمومية ومستقبل كبريات شركات الإنتاج والخدمات. أما الشركات الصغرى فقد انهار معظمها ولم يكن أمام العديد منها إلا مراوغة الزمن رغم تأجيل استخلاص الديون الذي اضطرت البنوك إلى أجرأته مما ألحق أضرارا جسيمة بالاقتصاديات الصغرى والمتوسطة.
وعلى العموم، لا يوجد قطاع من قطاعات النشاط الإنساني، لم يتأثر تأثرا بالغ الخطورة ليس على نشاطه، بل على وجوده ذاته.
أما الأطباء ومعهم علماء الطب وكل ما يتصل به فقد وجدوا أنفسهم أمام تحد يندر أن يواجهوا مثله، فهم مطالبون ليس فقط بعلاج الضحايا، بل بتوعية الناس، كل الناس، كما أنهم أمسوا ذوي سلطة مضاعفة وساعات يومية طويلة إضافية وضرورات للعلاج مستجدة أضافت إلى صعوبة عملهم صعوبات إضافية دون أن تفكر الدولة في تعويضهم ماليا على الجهد الإضافي الذي فرضه الوباء فرضا.. لم يكن لهم خيار ليس في صرف الجهود المضنية، بل في مضاعفتها وتكثيفها إلى أقسى الحدود الممكنة، وكم طبيبا وممرضا، وطبيبة وممرضة، راحوا ضحية العدوى التي نقلها لهم مرضاهم من ضحايا الفيروس القاتل بالرغم من كل الاحتياطات التي يتخذها الجسم الطبي وهو يقوم بعمله الجليل.
وبالموازاة مع هذا الوضع التراجيدي استفاد العديدون من الوضع الوبائي وربحوا ويربحون أموالا طائلة، وهو أمر معهود في النوائب والحروب.
لكن درس كورونا الأكبر سيبقى هو اكتشاف الدول والمؤسسات قَدَرَ إنجاز الأشغال والأنشطة عن بعد. وهو العنصر الذي إذا أضيف إلى تكنولوجيا الروبوتات، سيغير عوالم الشغل تغييرا كبيرا.
غير أن الدرس الأكبر والأعمق والذي لم يعد يقبل الجدل بعد مرور ما يقارب سنتين على خروج فيروس من مختبرات عملاقة كي يضرب ضحاياه من ذوي المناعة الضعيفة، وبعد أن انكشفت بعض الحقائق، هو هذه الدكتاتورية الصحية التي فرضت حياة ليست حياة على كل البشر، وخنقت وجودهم كبشر يموتون حبا في الحياة (هكذا خلقهم الخالق وهو ما ورثهم إياه أيضا أبوهم آدم).
ولقد تنبهت الفلسفة إلى هذا الإمكان، منذ ما يقارب نصف قرن، إمكان إخضاع الإنسان لديكتاتورية صحية عالمية، وكان ذلك في كتابات ومحاضرات (ميشيل فوكو) في السبعينيات من القرن الماضي. مثلما تنبهت (الفلسفة) أن المطلوب أمام تحديات تفرضها هذه الدكتاتورية إلى الأهمية البالغة لانتفاضة المجتمع البشري ضد هذا القدر التراجيدي، ليس للدفاع عن نفسه (المجتمع) فقط ، بل للدفاع عن الحياة كما هي في ذاتها وفي جوهرها. فلقد تحدث (فوكو) عما سماه ((البيو- سلطة)) ويقصد بها التحول العميق الذي يطال الحكم السياسي، ليس في مظاهره الخاصة بمراقبة سلوك الناس الفردي والجمعي وحسب، بل وفي جوهر ميكانيزماته التحكمية، تحكم في الإرادة الشخصية وتحكم في الحرية الاجتماعية.
تلك بإيجاز شديد هي الدروس الكبرى لوباء كورونا. وهي ليست الدروس الوحيدة…

الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 26/10/2021