دعوة لعسكرة السياسة باسم هيبة الدولة؟

إيمان الرازي*

إن من أخطر ما يمكن أن يُطرح في خضم النقاش العمومي حول مستقبل الديمقراطية في المغرب، أن ينبري أحد البرلمانيين – لا بوصفه فاعلا سياسيا واعيا بمسؤولياته الدستورية، ولكن ككائن انتهازي على رأس جماعة ترابية – مطالبا بنقل صلاحية منح التزكيات الانتخابية من الأحزاب السياسية إلى وزارة الداخلية. إن هذا الكلام، الذي تفوح منه رائحة الحنين إلى مرحلة التحكم الإداري المباشر في المشهد الحزبي والسياسي، لا يمكن تأويله إلا باعتباره انزياحا خطيرا نحو منطق البيروقراطية الاستبدادية التي قطعت معها الدولة، وقاومتها القوى الديمقراطية في هذا البلد، والتي دفعت من أجل تحجيمها أثمانا نضالية غالية، سواء في زمن سنوات الجمر أو خلال المعارك السياسية سابقا.
أن يصدر هذا الكلام عن رئيس جماعة ترابية، يفترض فيه أن يكون ممارسا للديمقراطية من موقع المسؤولية، لا مروّجا لردة سياسية تمس جوهر التمثيلية والشرعية الشعبية، فذلك يكشف عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها العقل السياسي لأعيان الريع الانتخابي، ممن يرون في الدولة جهازا أبويا يجب أن يصادر إرادة الأحزاب والمواطنين بدعوى الحفاظ على «هيبة المؤسسات». فأي هيبة يمكن أن تبنى على مصادرة التعددية؟ وأي كفاءة تلك التي تقاس بالمظهر الخارجي للمرشحين، في تجلٍ كاريكاتوري للسطحية الفكرية والبؤس الثقافي لمن يُفترض فيه أن يكون مشرعا؟ وهل الديمقراطية تقاس بنوع السروال، أم بقدرة المنتخب على تمثيل مصالح المواطنين والدفاع عنها؟ ثم إن هذا الخطاب، المريض بالتصنيفات الأخلاقوية الساذجة، لا يعكس سوى انزعاج فئات معينة من الصحوة النسبية للشباب داخل الحقل السياسي، ذلك الشباب الذي رغم كل الإقصاء والتبخيس، بات يقتحم المساحات التي ظلت حكرا على الكائنات الانتخابية الريعية لعقود.
من المؤسف حقا أن يتم تسفيه الحياة الحزبية بهذا الشكل المبتذل، حيث يصير الشاب المرتدي لسروال «مقطع» دليلا على انحطاط السياسة، بينما يتم التغاضي عن حقيقة أن الفساد الانتخابي لا يرتبط أبدا بالسن أو اللباس، لأن الخطر الحقيقي ليس في مظهر المرشحين، بل في مضمون المشروع السياسي، في غياب المحاسبة، في انتداب أشباه أعيان يبيعون الولاءات مقابل الدعم، ويمارسون السياسة كوسيلة للاسترزاق لا كأداة للتغيير. وإذا كانت بعض الأحزاب تُقصّر في معايير التزكية، فإن الحل لا يكمن في مصادرة اختصاصها من طرف وزارة الداخلية، بل في إعادة بناء الفعل الحزبي الديمقراطي على أسس الوضوح الإيديولوجي، والتأطير الجدي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، لا في استنساخ تجربة التعيينات الإدارية التي لفظها التاريخ وأدانها الشارع وتجاوزتها الدولة.

القول بأن وزارة الداخلية يجب أن تشرف على منح التزكيات هو دعوة صريحة إلى دفن آخر ما تبقى من التعددية السياسية، وإعلان نهاية وظيفة الأحزاب كوسيط ديمقراطي بين المجتمع والدولة. إنه مشروع يطمح لتأميم السياسة وتفريغ المؤسسات المنتخبة من مضمونها التمثيلي، عبر تسليم مفاتيح الانتداب الشعبي إلى الولاة والعمال، أي إلى آلية الضبط الإداري، رغم أن الداخلية براء من أحلام يقظة كهذه، ثم من قال إن الترشح للانتخابات يجب أن يكون حكرا على أصحاب الياقات البيضاء وربطات العنق؟ من قال إن من حق أحد أن يختزل الكفاءة السياسية في المظهر؟ أليس في هذا ازدراء وقح لفئات واسعة من الشباب والمهمشين الذين يحاولون دخول السياسة من بابها الصعب، رغم العراقيل ورغم التبخيس الممنهج؟
إن هذا المنطق يكرّس رؤية طبقية للنخب، حيث يتم تصنيف الناس بناء على لباسهم، لا على نضجهم أو مشروعهم أو التزامهم الجماعي. وهو منطق متعجرف ومتحامل، يُعيدنا إلى الخطاب الإقصائي السلطوي الذي لطالما كان أداة بيد رموز التحكم، لتبرير إقصاء قوى التغيير الحقيقية من الفضاء السياسي.
إن السخرية التي وُوجه بها هذا التصريح داخل لجنة الداخلية لم تكن عبثا، بل كانت تعبيرا صادقا عن امتعاض سياسي عميق من محاولة تمرير خطاب خطير يُشرعن عسكرة السياسة من داخل البرلمان نفسه. فلا أحد، حتى في صفوف السلطة، يدافع سرا أو علانية عن منطق منح التزكيات الإدارية، لأنها ببساطة قطعت معه بشكل نهائي، وأنه في الوقت ذاته، إعلان صارخ عن نهاية العملية الانتخابية بصيغتها الديمقراطية، كما أنه انزلاق نحو الترويج لنموذج سلطوي لا يتناسب مع روح الدستور ولا مع تطلعات الشعب المغربي، ولا حتى مع الصورة الحقيقية للدولة بشأن انخراطها الجدي في إصلاحات ديمقراطية عميقة ومستمرة.
إن ما صدر عن هذا البرلماني هو بمثابة إعلان إفلاس حزب التغول من حيث التأطير وصناعة النخب التي تمثل الأمة لأن هيبة الدولة ليست في بذلة رسمية يتوارى خلفها بؤس سياسي وانتهازية مقيتة، كما أن لباسا شبابيا كمعيار للإقصاء والازدراء هو نفسه إعادة إنتاج للباترياركية على الشباب التي يحن البرلماني المسكين إلى وزارة الداخلية لكي تعيد إنتاجها عليه وعلى الأحزاب، وأنه هناك اليوم فعلا، من يستكثر على الدولة المغربية رفع اليد، لأن مثل هذه التصريحات هي تفسير للمسافة الضوئية التي تتمتع بها الدولة اليوم في كثير من المحطات بالقياس إلى إيقاع «بعض النخب» الحلزوني بكثير من التجاوز: دولة تسريع الإنضاج ونخب تأبيد العوز والوصاية.
ما قاله هذا النائب لا يستحق فقط الرد عليه، بل يجب فضحه وتعريته باعتباره محاولة انقلابية ناعمة على الدستور والمؤسسات، ومحاولة توريط للداخلية في شهوة البعض للتحكم والوصاية، وتتنكر لتضحيات أجيال من المناضلين الذين واجهوا التحكم الإداري ودفعوا من حريتهم ودمهم من أجل أن يصير للمغاربة صوت وحق في اختيار ممثليهم بحرية، عبر برامج حزبية حقيقية، وإذا كان هناك من مستنقع كما يدعي، فهو ذاك الذي أنتجه الريع السياسي الذي أوصله وأمثاله إلى كراسي الجماعات وقبة البرلمان.

(*) أكاديمية وفاعلة سياسية

الكاتب : إيمان الرازي* - بتاريخ : 09/05/2025