بأصوات متعددة .. ما معنى أن تكون ناضجا؟

سعيد منتسب

ما معنى أن تدخل في مواجهة ساخنة مع النضج الإبداعي والاجتماعي الذي يطيب للجميع الاستغراق فيه، وأن تترك نفسك تمرح مع أعطابها ونقائصها وتجاربها وقراءاتها، وأن تنظر إليها أيضا بقسوة، لا كحكم مسبق، بل كاختبار مستمر لما تريده هي وتجنح إليه.
فما معنى أن تكون ناضجا، وكل شيء يجبرك على الالتفات وإعادة النظر في كل شيء.. في الأخلاق العامة، في التأويل الأخلاقي المعطوب، في تاريخ التجربة المعرفية، في المتبدي والغائب، في النظام والفوضى، في الأدب والركاكة وعدم الإتقان؟
ما معنى أن تكون ناضجا والنضج انعكاس لتجربة عامة، بينما الأسلوب هو تحديدا النظر لكل الأشكال من بعيد، والحرية هي تحديدا عدم وجود أي شكل؟
ما معنى أن تكون ناضجا، وأن تكون كاتبا؟ هل تضع لكتابتك ربطة عنق لتكون مثيرا للإعجاب، ومستحقا للإطراء، أم تقول «الحياة جميلة يا صاحبي» وتنصرف إلى حال ارتباكك النابع من الهامشي والمؤقت والعابر وغير الحقيقي؟
إنني دائما أطرح على نفسي السؤال التالي: ما معنى أن تكتب بشكل لائق؟ وهو ما حاولت تقديم إجابات عنه، من خلال الإيمان بضرورة تجنب الوقوع في البراءة بكل الأشكال الممكنة. الإيمان بالشك في المكتوب والمقروء. حاولت أن أرغم نفسي على أن لا أكون مجرد ناسخ، مع أن حقيقة الكتابة هي النسخ، والتنويع على الأصل، واستدعاء الحمض النووي للنص الأول. وبطبيعة الحال، انتبهت إلى أن النصوص الفارقة في تاريخ الأدب كتبها ذلك السعي الجهنمي الحارق نحو الاكتمال. وبهذا المعنى أيضا أدركت أن الناقص هو المطلق واللانهائي، أما المكتمل فهو المهمل والمتوقع. إننا نكتب الأدب الجديد بالركاكة، وليس بالبلاغة. والسؤال هو: كيف يمكن للكاتب أن يكون «بليغا»، إذا لم يعثر على أسلوبه الخاص، وعلى الصوت غير المشوه الصاعد من أعماقه. فإذا كانت البلاغة هي حسن البيان وإدراك غاية الوصول، فإن الركاكة انحياز للتسكع دون غايات أو وعود. إن الكاتب «الركيك» هو من يعبس في وجه الاتساق، وهو الذي يستطيع أن يصيب «الأوزان» و»الأجناس» و»القوالب الأدبية» كلها بنوبة قلبية.
إن رفض كل تسوية ممكنة مع ما يجعلك «اعتياديا» كـ»أكل الولد التفاحة» وباردا كنائب الفاعل، يفرض هذا النوع من الانتقال. فمثلا، القصة ليست قدرا، ولا إرغاما. القصة، كما القصيدة والرواية والمقالة التأملية، مجرد ذريعة لإدراك المعنى الأصلي لما يستحق أن يكون كتابا. ليست كل الكتب كتبا، وليست كل الكتب جديرة بالقراءة، وليست كل الكتب مشى كاتبها فوق هاوية ليكتبها. هناك الكثير من الحبر، والكثير من الادعاء، والكثير من الدجل وعدم احترام القراء. الكتاب هو الذي يمشي وحده، وليس مطلوبا منه أن يمشي على الأرض (النسق) التي مر منها الآخرون، بل الرهان الأساسي هو أن يمشي خارج الأنساق متأبطا غير قليل من الزَّلات والأخطاء والمروق الأخلاقي والديني والسياسي، وعلى وجه التخصيص المروق الذي يحافظ على مذاق اللحم المعضوض للغة في الأسنان؛ لا لترتفع هذه اللغة وتتحنط وتُعْبَد، بل لتصبح سريرا واسعا لكل سقوط ممكن. ولعل هذا ما نفهمه من سيوران حين يصرخ: «كل كتاب هو انتحار مرجأ».
لم يعد مهما عندي أن يكون النص قصة أو قصيدة أو أي شيء آخر. بل المهم هو أن أكتب ما يساعد على التدمير والمحو والانفصال، والغاية في نهاية المطاف هي أن يكبُر الكتابُ طولا وعرضا، وينمو داخليا نمواً لانهائياً دون أن يشيخ. المهم هو أن أتعلم كيف أمشي وحدي في الزحام، أن أحفظ طريقي عن ظهر قلب، وأن أخرقها وأمزقها حتى لا تصبح حجا أو طريقة.

الكاتب : سعيد منتسب - بتاريخ : 29/03/2017