دليل الأشباه والنظائر للحاكمين في الزمن الحاضر
أحمد المديني
لكل منا حالاتٌ وأنماط سلوك وظواهر يمجُّها أو يتضايق منها، أعني منها تحديداً ما يحدث في العالم الخارجي من عيش الأفراد وصور المؤسسات والهياكل التي تنتظِمُهم مشترِكين وتصنع في الأخير الظاهرةَ الكليةَ لمجتمع ما من نواحيه المختلفة، أستثني منها، بالطبع، المشاعرَ الخصوصيةَ والنزوعاتِ والمطامحَ، بل وبعض أنواع العُصاب هي شخصية بحت. وأرى، ومعي كثير، أن الوجود الفعليّ لمجتمع ما، لبلدٍ، ودولة، هو ما تصطبغ به من حيوية ويتفاعل بل يتصارع بداخله من مذاهبَ وتياراتٍ واختياراتٍ على أصعدة السياسة والفكر والاقتصاد وتمثيلات الحياة الاجتماعية والأذواق وما إلى هذا مما يجسد التنوع الذي تزخر به الطبيعة أصلا قبل أن تشرع أفكار التنوير في الحديث والنضال من أجل التعدد والاختلاف.
ليس أصعب وأثقل من العيش في الثبات ومعاقرة التكرار، باختصار في حياة متشابهة. تخبرنا حوادث الأيام عن سِيَر رجال تخلوا عن الدعة والاستسلام للمتاح والقناعة بما ترى العين وتكسب اليد ويرسمه القدر، فشدوا الرحال إلى أصقاع العالم، وخاضوا المجهول في المغامرة إما مكتشفين، أو رسلا ودعاة، أو باحثين عن يقين وحقائق أبعد من كل يقين، تجشّموا من أجل ذلك أعتى الأخطار، وبهذا حققوا بحث الذات وعبّروا بنوع مسعاهم عن معنى الإنسان. هكذا هم العلماء المكتشفون، الموصومون بالمروق، المدانون بالضلال عند الأديان وسدنة الشرائع. هكذا هم الثوار في كل المجتمعات التي ترزح تحت نير الاستعباد ويتسلط فيها غِلاظٌ مستبدون. هكذا، أيضا، الفلاسفة وذوو العقول المستنيرة شادوا فكر البشرية وخلخلوا دائما عُمُدَ الجمود. وكذلك يكون المبدعون فنانين وأدباء، أصحاب الأرواح المخطوفة، أقدامُهم في الأرض ونفوسُهم تحرُث سحبَ الخيال لا تهتم أياسمينا ستقطف أم تعود من الحصاد بوهم وقبض ريح.
وكما ترون، فإن حديثي لا يتعدى النظريّ العام، وسيقال، أي نعم، هذا ضرب معقول من الكلام، فهات برهانك إن كنت من الصادقين، وهذا لعمري اختبار عسير رغم أن الكيل طافحٌ بالأمثلة بما يسند إحساس الامتعاض من حالة التشابه في مجالات الحياة والاجتماع والفكر ومزعوم الإبداع، وفي السياسة على الخصوص، هي خبزنا اليومي أحببنا أو كره الكارهون. مَن بطبعي، ويشتغل شغلي، ما أكثر ما يتحفظ من خوض هذا الميدان، لا لتشابك دروبه، ولا أخلاقية مناوراته، من وجهة نظري، دعك مما يُفترى عليه من تشابك دروبه وعقده، أضف ما ينسب إليه من باب التبرير التسويغ من أن له أخلاقه الخاصة، ولكن، فوق هذا، لأنه مصبوغ، حسب جورج أورويل، صاحب 1984، بـ «طلاء وسخ» بينما مُتعهِّدوه والعاملون في حقله يعلنون على رؤوس الأشهاد أنهم دعاة تغيير ورسلٌ جدد. وما أنا هنا لأشنِّع على أحد، لست ممن يبخسون الناس أشياءهم، كل ما هنالك أحب أن أبقى حيث يحلو لي ويليق بي، مما يناسب مزاجي، والكاتب شخص ذو مزاج ويتكيف، أي يعيش ويكتب على كيفه؛ انظروا معي إذن ما أرى هنا.
فإني يا سيدات يا سادة يا كرام، نظرت إلى برلماننا الموقر كما أسفرت عنه الانتخابات التشريعية الأخيرة، فوجدت مثلكم أن أغلبيته مشكلةٌ من ثلاثة أحزاب هي حسب صورة ما.
أعطت صناديق الاقتراع تعبير الشعب عن مساندته لفئات ورغباته وانتظاراته منها (كذا)، بينما لم يُبق هذا الشعب المقهور، المُضام والمطالِب بالإصلاحات وما يشاء لغير هذا المكوِّن الثلاثي كبير العدد والعتاد، والمتحالف؛ لم يبق لخصمه المعارض، سوى الفتات من الأصوات ومقاعد البرلمان. وإنه من الطريف حقا أن المعارضة صاحبة المطالب الجوهرية والخطاب الجذري، وأنا أعني تنظيماتها التقدمية وثقافتها التنويرية ورصيدها الممتحَن في تجارب سابقة، تبدو في الشكل بمثابة النقيض للشعب الذي سنفكر صوريا دائما أنه أقصاها ـ يا لها من حالة مازوخية! ـ من تلقاء ذاته عن موقع تصدّر تمثيله والتشريع لما يستجيب لتطلعاته، ونصَّب خصومَ برامجها لخمس سنوات وحده سيتحمل ثمارها وعقابليها سمانا جاءت أو عجافا.
بوسعي صرف النظر عن هذا كله، من باب احترام إرادة المواطنين، إذا توافقنا حقا أو جدلا أنها احتُرمت، وأستأنِف عما بدأت من قبل، فقد قلت لا أثقلَ منه وأبعثَ على التضايق، أذكّر، وحدة الفكرة والرأي والمنهج والسلوك والذوق، بل والقاموس، ومثل هذا يؤدي إلى فداحة الببغاوية. إني أرى القوم يدخلون ويجلسون في أماكنهم تباعا. أسمع بعد ذلك من يفتتح الجلسة بوقار ما بعده ليفرض هيبة على المجلس يخشاها مفقودةً، فيتململ الرابحون يتهيؤون للكلام، بينما الخاسرون على رؤوسهم الطير في زاوية منبوذة، إذ يتفق أن هذا طقس جديد لأغلبية معقودة. ثم تُعطى الكلمة للأول من الفئة الغالبة، فيصول ويجول ويعيد توزيع التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والتربية الوطنية والمساكن اللائقة والمسالك المخنوقة العالقة، بالعرض والطول، حتى لينسى أحيانا أن لا غالب إلا الله. ثم ينادَى على من يليه في أغلبيته من الدرجة الثانية، تسمعه يردد المعزوفة ذاتها ينوّعها بحركاتٍ يدائيةٍ والصوت يعلو وينخفض حسب الآذان، صمّاء أو صاغية، والعيون مسبلة أم صاحية. يلتحق به الذي في الدرجة الثالثة من الغالبية، إن كنتَ منتبهاً ستقول وأنت تسمعه هذا لَغوٌ أعرفه من أيام خالية، قد مرت بنا أقوام تشبه هؤلاء، وها هم أنفسهم يعودون مع تغيير طفيف في الهندام وبحّة الصوت ومصطلحات الوقت، كان مصطفى القرشاوي كلما أعيته الحيلة، أعيتنا، في ذلك الزمن السبعيني الذي كان، ينظر إلى السماء وحوله وإليّ في شبه يأس وبحنق ويرسل عبارته مُرّة: ” قبح الله الوقت؟”.
وإذن، سيقضون هنا، وفي دواليب الحكم يا إلهي خمس سنوات، اللهم بقدرة قادر، وهم يرددون الكلام ذاتَه، يصفّقون لبعضهم، يرون الشمس في القمر، وكلَّ شيء بأبهج نظر. ثم سيحدث ما لم يخطر من قبل على قلب بشر. فعوض أن يجتمعوا كلهم في أي هيكل أو معبد من معابدهم سيختارون أو يُختار واحدٌ منهم، فقط، ليجلس في المكان الواحد، ويشغل الزمن الحاضر والعائد؛ واحدٌ يختصر العدد، ويحمل المدد، هو أمس واليوم ووعد غد، ستسمعه يقول بملء شدقيه وعيناه إلى المدى يرسل صوته ويرتد إليه الصدى، سينفجر قوله قنبلة: نحن كل البلد. لا تعجبوا، كما أنهم لم يأتوا بشيء عجب، وأنا والله لا أشمت بهم، يكفي أنهم يا للمساكين يتشابهون، وحق المولى لا أعرف كيف سيتحملون ثقلهم وأن يروا وجوههم كل صباح في مرآة بعضهم. قصائد الغزل إذا أُنشِدت مرارا تسبب الملل، فكيف بخطب مستنسخة تلوكها ألسنة بسماجة وبلا كلل. لذلك ليس أفضل من الأدب، وحده يخرق القاعدة ويسخر بلا وجل!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 10/11/2021