دمج (CNOPS) و(CNSS) إصلاح حقيقي أم محاولة لإدارة الأزمات بين الطموحات والتحديات البنيوية؟
محمد السوعلي (*)
يمثل دمج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS) مبادرة حكومية تهدف إلى إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي من خلال تعزيز الكفاءة الإدارية، توسيع التغطية الصحية، وتحقيق المزيد من الشفافية. ومع ذلك، أثارت هذه الخطوة جدلاً واسعاً حول فعاليتها وقدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة، خاصة في ظل التحديات البنيوية العميقة التي تواجه المنظومة الصحية الوطنية.
في الخطاب الرسمي، تركز الحكومة على أن دمج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي يهدف إلى تحقيق شمولية التغطية الصحية، من خلال توسيعها لتشمل الفئات الأكثر هشاشة والمحرومة، بما يتماشى مع رؤية تعميم التغطية الصحية. وترى أن هذه الخطوة ستعزز الكفاءة والشفافية في إدارة الموارد البشرية والمالية، مع تقليل التعقيدات الإدارية التي تعيق تقديم خدمات ذات جودة عالية. كما تعتبر الحكومة الدمج حلاً لضمان الاستدامة المالية، من خلال معالجة عجز الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي ودمج موارده مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للحفاظ على الاحتياطيات وضمان استمرارية الخدمات. وتسعى الحكومة كذلك إلى توحيد الهيكلة القانونية والتنظيمية للمؤسستين لتسهيل العمليات الإدارية وتعزيز تكامل نظام الحماية الاجتماعية.
لكن هذه الأهداف المعلنة، تغيب ما تواجهه المنظومة الصحية المغربية من تحديات بنيوية تشمل نقصاً حاداً في الموارد البشرية والمالية وضعفاً في البنية التحتية الطبية والتمريضية، مما يحد من قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين بفعالية. إلى جانب ذلك، تعاني الخدمات الصحية من ضعف في التغطية، الجودة، والكفاءة، ما يؤدي إلى تفاقم معاناة الفئات الهشة. يُضاف إلى ذلك سوء تدبير الموارد وغياب الحكامة، ما يؤثر سلباً على أداء الشبكة الصحية الوقائية والاستشفائية.
ولعل تغييب مثل هذه المعطيات ساهم في مواجهة مشروع الدمج ورفضه بقوة من طرف النقابات المهنية، حيث أعربت عن قلقها من احتمال تقليص الفوائد وزيادة الأعباء المالية على المستفيدين، مع فقدان بعض الحقوق المكتسبة. واعتبرت النقابات أن هذا الدمج يمثل اعتداءً على المكتسبات الاجتماعية وتم اعتماده بشكل أحادي دون إشراك الأطراف المعنية في حوار اجتماعي. كما شددت على أن المشروع يعيد تكرار أخطاء إصلاحات سابقة مثيرة للجدل، مثل إصلاح صناديق التقاعد، مما يشكل تهديداً لحقوق العمال في إطار ما وصفته بمحاولة «رأسمالية» لتقليص الحقوق الاجتماعية.
في هذا الخصوص، اتهمت النقابات الحكومة بالرضوخ لضغوط لوبيات اقتصادية، مشيرة إلى أن الدمج يركز على معالجة الجوانب المالية على حساب الأبعاد الاجتماعية والإنسانية. كما أبدت مخاوفها بشأن تأثير المشروع على الحريات العامة، محذرة من أنه قد يؤدي إلى تقليص حرية التعبير والحق في الاحتجاج.
وعلى صعيد آخر، يخشى المستفيدون من خدمات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي من فقدان حقوق مكتسبة، مثل ارتفاع نسب المساهمات، تقليص سلة العلاجات، وانخفاض نسب التعويض. كما أن مصير تغطية الأمراض المزمنة التي كانت مكفولة سابقاً يثير مخاوف حول تأثير الدمج على جودة الخدمات الصحية.
التحديات المالية للصندوقين تزيد من تعقيد الوضع، حيث يعاني الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي من عجز مالي متزايد تجاوز مليار درهم، مع توقع استنفاد احتياطاته قريباً نتيجة ارتفاع تكاليف علاج الأمراض المزمنة وزيادة أعداد المستفيدين المتقاعدين. في المقابل، ورغم تحقيق الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لتوازنات مالية نسبية، فإنه يواجه انتقادات بشأن بطء معالجة الملفات الطبية وتعويض المستفيدين، إضافة إلى تحديات تتعلق بتوسيع قاعدة المستفيدين وضمان استدامة الخدمات.
في هذا السياق، تبرز عدة تساؤلات أساسية حول عملية الدمج:
ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة في توفير الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية مع الحفاظ على اقتصاد السوق؟ وكيف يمكن فهم دمج الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كجزء من جهود الحكومة لتعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية؟
كيف يمكن ضمان انتقال سلس لتدبير اختصاصات الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي دون التأثير على جودة الخدمات المقدمة للمستفيدين؟ وما هي الآليات الكفيلة بتفعيل التنسيق مع الجمعيات التعاضدية وضمان استمرارية الخدمات خلال الفترة الانتقالية؟
هل يمكن للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي استيعاب جميع أنظمة التأمين الصحي المختلفة وتوحيدها بما يلبي احتياجات كافة الفئات؟ وكيف ستؤثر التعديلات الجديدة، مثل تمديد التغطية الصحية وإلغاء التأمين الخاص بالطلبة، على المستفيدين الحاليين وقدرة النظام على تحقيق الاستدامة؟
هل يمثل الدمج خطوة إصلاحية حقيقية لتحسين الحوكمة وجودة الخدمات، أم أنه محاولة لتغطية العجز المالي لأحد الصندوقين عبر موارد الآخر؟ وما هي المعايير التي ستُعتمد لتقييم نجاح عملية الدمج وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وتعميم الحماية الصحية للمواطنين؟
وجواباً على التساؤلات السابقة، يرى المتتبعون لشؤون التأمين الصحي أن الإصلاح الذي تبنته الدولة يواجه انتقادات كبيرة بسبب عدم توافقه مع متطلبات الواقع ولعدة أسباب، منها:
غياب التخطيط الشامل: الإصلاح يفتقر إلى خطة واضحة لمعالجة التحديات الإدارية والتنظيمية، مما يجعل من عملية الدمج خطوة غير مدروسة تزيد من تعقيد الوضع بدلاً من تقديم حلول فعالة.
تفاقم الأزمات المالية : دمج موارد الصندوقين لحل العجز المالي يعتبر حلاً سطحياً، إذ لا يعالج الأسباب الجذرية للعجز، مثل سوء تدبير الموارد وارتفاع النفقات الصحية، خاصة تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة.
التأثير السلبي على جودة الخدمات: بدلاً من تحسين جودة الرعاية الصحية، قد يؤدي الدمج إلى تراجع الخدمات بسبب غياب التنسيق الكافي بين الصندوقين وصعوبة التعامل مع الملفات المشتركة.
عدم مراعاة الفئات الهشة: الإصلاح لا يقدم حلولاً واضحة لتوسيع التغطية الصحية لتشمل العاملين في القطاعات غير المهيكلة، مما يترك هذه الفئات دون حماية اجتماعية كافية.
ضعف البنية الرقمية والموارد البشرية: وعود الحكومة بتحديث الأنظمة الرقمية وتأهيل الكفاءات البشرية تبقى وعوداً غير ملموسة، مما يعيق تنفيذ الإصلاحات بشكل فعال.
في ضوء هذه الأسباب، يرى المتتبعون أن الإصلاح الذي تبنته الدولة لا يواكب الطموحات المرجوة، وأنه يحتاج إلى مراجعة شاملة تعالج التحديات البنيوية والمالية بشكل جذري، مع وضع استراتيجيات تضمن الاستدامة والعدالة في توزيع الخدمات.
رهانات إصلاح نظام التأمين الصحي: الأهداف الطموحة مقابل الواقع المعقد في ضوء دمج الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي.
رهانات إصلاح نظام التأمين الصحي تحمل تناقضاً بين الأهداف الطموحة والواقع المعقد، مما يعكس التحديات الكبرى التي تواجه هذا المشروع في المغرب. فمن ناحية، تسعى الجهود إلى بناء نظام صحي شامل ومستدام يحقق العدالة الاجتماعية ويوفر الحماية الصحية لكل المواطنين، إلا أن الجانب العملي يبرز عوائق هيكلية وتنظيمية قد تحول دون تحقيق هذه الطموحات.
الإصلاحات تواجه عقبات كبيرة تتمثل في ضعف التخطيط وغياب التنسيق بين الأطراف المعنية، إلى جانب استمرار الأزمات المالية والإدارية في المؤسستين المعنيتين. الفجوة بين الرؤية النظرية للإصلاح وإمكانية تحقيقها عملياً تتسع مع استمرار ضعف الحكامة والشفافية، مما يزيد من تعقيد الوضع.
دمج المؤسستين لا يمثل مجرد خطوة إدارية، بل يعكس رهانات أكبر تتعلق بإعادة هيكلة منظومة الحماية الاجتماعية بأكملها. ومع ذلك، هناك مخاوف من أن يؤدي هذا الدمج إلى تعميق الأزمات إذا لم يصحبه إصلاح شامل يعالج التحديات البنيوية والإدارية.
التباين بين الأهداف الطموحة للدمج والواقع المليء بالتعقيدات يثير تساؤلات حول قدرة النظام الحالي على الاستجابة لتلك الطموحات دون تعميق المشكلات القائمة. تحقيق هذه الأهداف يتطلب رؤية إصلاحية واضحة تتغلب على القيود البنيوية والتنظيمية وتضمن استدامة النظام الصحي والعدالة في توزيعه.
تحليل البدائل الممكنة لدمج الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS) والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS)
بدلاً من تنفيذ عملية الدمج، كان بإمكان الحكومة النظر في بدائل عملية تحقق الأهداف المرجوة من الإصلاح مع الحفاظ على استقلالية المؤسستين واحترام التوجيهات الملكية بشأن الدولة الاجتماعية والحماية الاجتماعية، وفي ما يلي تحليل لأبرز البدائل الممكنة:
تحسين آليات تدبير الموارد المالية والبشرية، وتفعيل أنظمة رقابة صارمة لضمان الشفافية والمساءلة.
تعزيز الحكامة في التدبير المالي والإداري يتطلب تحسين إدارة الموارد من خلال تطوير آليات فعالة لتدبير الموارد البشرية والمالية بكفاءة عالية، مع وضع خطط استراتيجية واضحة تضمن الاستخدام الأمثل للموارد وتجنب أي شكل من أشكال الهدر. كما يستلزم الأمر تفعيل أنظمة رقابة صارمة تضمن الشفافية في العمليات، إلى جانب تقييم الأداء بشكل دوري لتعزيز الكفاءة وتحقيق النتائج المرجوة.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر تنسيق التعاون بين الصندوقين خطوة ضرورية، حيث يمكن إنشاء منصة مشتركة تسهم في تنظيم العمل وتجنب التداخل في المهام، مع تعزيز التكامل بين المؤسستين دون اللجوء إلى خيار الدمج، مما يضمن استمرارية العمل بفعالية وتحقيق الأهداف المشتركة.
الرفع من جودة الخدمات الصحية والرفع من الاستثمار في البنية التحتية الصحية وتدريب الكوادر الطبية والتمريضية لضمان توفير خدمات متكاملة وعالية الجودة.
تحقيق تحسين شامل في جودة الخدمات الصحية يتطلب الاستثمار في البنية التحتية من خلال تخصيص ميزانيات كافية لتحسين وتجهيز المرافق الصحية، مع التركيز بشكل خاص على المناطق النائية لضمان توفير خدمات متوازنة وشاملة لجميع المواطنين. بالإضافة إلى ذلك، يُعد تطوير الكفاءات الصحية ضرورة ملحة، حيث يمكن تحقيق ذلك عبر إطلاق برامج تدريب متخصصة للموظفين في القطاع الصحي، تهدف إلى تطوير مهاراتهم وتعزيز قدراتهم بما ينعكس إيجاباً على جودة الخدمات المقدمة.
إلى جانب ذلك، يمثل تعزيز الأنظمة الرقمية خطوة أساسية في هذا السياق، حيث تسهم رقمنة العمليات في تسهيل الوصول إلى الخدمات الصحية، وتسريع الإجراءات، وتحسين كفاءة إدارة الموارد، مما يعزز من فعالية النظام الصحي بشكل عام ويضمن تقديم خدمات صحية متكاملة ومستدامة.
الإصلاح الهيكلي ومعالجة المشاكل الإدارية والمالية لكل صندوق على حدة، لضمان تحقيق استدامة مالية بعيدًا عن الحلول المؤقتة.
لمعالجة العجز المالي، يتطلب الأمر وضع خطط فعالة لإعادة التوازن المالي من خلال مراجعة نظام الاشتراكات وتوسيع قاعدة المساهمين، مع الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية لضمان استمرارية الدعم للفئات المستفيدة. كما أن تحسين الهيكلة الإدارية يُعد خطوة أساسية، حيث يتطلب معالجة أوجه القصور الإداري لكل صندوق بشكل منفصل لضمان تحقيق استدامة مالية وإدارية أفضل، وتعزيز كفاءة الأداء.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التركيز على التخصص، بحيث يتم تطوير كل صندوق للتركيز على مسؤولياته الأساسية ومجالات عمله الرئيسية، مع وضع آليات واضحة للتنسيق في الملفات المشتركة بين الصندوقين، مما يضمن تحسين الكفاءة وتجنب التداخل في المهام لتحقيق أهداف الإصلاح بشكل فعال ومستدام.
إنشاء نظام تكاملي بين الصندوقين
بدلاً من اللجوء إلى الدمج الكامل، يمكن اعتماد نظام تكاملي يربط بين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS) من خلال آليات عمل موحدة. يتيح هذا النظام تحسين التنسيق بين المؤسستين مع الحفاظ على استقلالية كل منهما، مما يضمن استمرارية الأداء مع تقليل التداخل في المهام وتعزيز الكفاءة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز التعاون الإقليمي من خلال تنسيق الجهود بين الجهات المختلفة لضمان تقديم خدمات صحية عادلة ومتوازنة في جميع المناطق. هذا النهج يساهم في تقليص التفاوتات الجغرافية وتحسين الوصول إلى الخدمات الصحية، مما يدعم تحقيق العدالة الاجتماعية في الرعاية الصحية.
الخلاصة
بدلاً من الدمج الكامل بين الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (CNOPS)، يمكن اعتماد نهج إصلاحي متدرج يركز على معالجة التحديات الإدارية والمالية لكل صندوق بشكل مستقل. يتيح هذا النهج تحسين التنسيق والتكامل بين المؤسستين دون المخاطرة بتحديات إضافية قد تنشأ من الدمج الشامل. الهدف هو تحقيق استدامة مالية وإدارية مع الحفاظ على المكتسبات الاجتماعية وتحسين جودة الخدمات.
الدمج، بحد ذاته، ليس كافياً لمعالجة التحديات المرتبطة بالكفاءة الإدارية والمالية. إذ إن استمرار سوء التدبير يؤدي إلى إهدار الموارد وارتفاع النفقات، خصوصاً تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة، مما يزيد الضغط على المنظومة الصحية ويهدد استدامتها. لتحقيق إصلاح فعّال، ينبغي التركيز على تحسين إدارة الموارد، تطوير أساليب التدبير المالي، والاستثمار في تعزيز البنية التحتية الصحية والخدمات، بدلاً من الاكتفاء بتغييرات سطحية.
كما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في هذا الخصوص معاناة المنظومة الصحية من نقص في شمول التأمين الصحي، خاصة للعاملين في القطاعات غير المهيكلة، وتفاوت في جودة الخدمات بين القطاعين العام والخاص، مع صعوبة الوصول إلى الخدمات في المناطق النائية. هذه التحديات تتطلب حلولاً شاملة تضمن تحقيق العدالة في الرعاية الصحية.
الفترة الانتقالية لتطبيق نظام التأمين الصحي المندمج تشكل تحدياً إضافياً، وتتطلب تخطيطاً دقيقاً لضمان نجاح الإصلاحات دون التأثير على التوجيهات الملكية وبرنامج تعميم الحماية الاجتماعية. من الضروري أن تكون الإصلاحات مصحوبة بتحسين البنية التحتية، تعزيز الحوكمة، وتطوير الكفاءات لضمان استدامة النظام وتحقيق أهدافه.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات للحزب
الكاتب : محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 04/12/2024