رسالة الاتحاد: استبداد الأغلبية يهدد التوازن المؤسساتي

محمد السوعلي(*)

ما جاء في «رسالة الاتحاد»بشأن الحكامة والسندان كشف المرامي الخفية لحزب من أحزاب الأغلبية الحكومية، الساعي إلى تكريس الاستبداد والتغول السياسي على حساب التوازن والاستقرار المؤسساتي. مساهمتي في هذا النقاش، الذي فتحه المغاربة كرد فعل عفوي، تأتي دفاعاً عن المؤسسات واستقرار الوطن، في ظل الانتقادات المتزايدة للسياسات الحكومية، كما عبّر عن ذلك حزب القوات الشعبية وفريقه النيابي وشبيبته. ومن موقعي كمناضل اتحادي، أستحضر جميع جوانب الفشل الحكومي انطلاقاً من مواقف الحزب وتنظيماته الموازية، للدفاع عن الشرعية الدستورية التي تُعد أساس استقرار الدولة وحماية مؤسساتها من التلاعب الحزبي.
محمد أوجار، الوزير السابق والسفير الحقوقي، أثار جدلاً واسعاً بتصريحاته الأخيرة التي انتقد فيها آلية تعيين الشخصيات الوطنية على رأس مؤسسات الحكامة بالمغرب خارج إطار الاقتراع الانتخابي. تصريحاته، التي اتسمت بنبرة استهزائية، كشفت عن فهم سطحي لمبدأ فصل السلط، وافتقار واضح للإلمام بالأدوار الدستورية التي توزع المسؤوليات بين عاهل البلاد، الحكومة، البرلمان، والجهاز القضائي.
إن الدفاع عن الدستور وتعزيز الديمقراطية يشكلان ركيزة أساسية لبناء دولة حديثة ومتوازنة. مؤسسات الحكامة المستقلة يجب أن تظل بعيدة عن الحسابات الحزبية الضيقة لتضمن حيادها وفعاليتها في خدمة المصلحة العامة. إن الاستقرار السياسي والاجتماعي لا يمكن تحقيقه إلا باحترام التوازنات الدستورية التي تؤطر العلاقة بين السلط، بما يضمن إطاراً مشتركاً للعمل الوطني بين مؤسسة الملك والحكومة والشعب.
لكن من المثير للدهشة أن شخصاً شغل مناصب رفيعة، مثل وزير العدل وسفير حقوقي، يظهر قصوراً في فهم هذا التكامل الدستوري بين الشرعية الشعبية (الانتخابات) والشرعية المؤسساتية (التعيينات الملكية). هذه التعيينات، من باب التذكير للسياسي المحنك، ليست مجرد إجراء رمزي، بل آلية دستورية تهدف إلى حماية مؤسسات الحكامة من التلاعب السياسي وضمان استمراريتها واستقلالها في خدمة الوطن.
تصريحات أوجار لا تعكس فقط سوء تقدير لدور مؤسسات الحكامة التي تعمل بزمنية مستقلة عن الزمن الحكومي، بل تبرز تناقضاً صارخاً بين ماضيه كيساري راديكالي وبين سعيه الحالي لإرضاء حزبه الليبرالي. هذه المواقف تثير تساؤلات جدية حول مدى فهمه لروح الدستور وآليات عمل الدولة، خاصة عندما توظف بشكل غير معلن لخدمة أجندات حزبية ضيقة.
الخرجة الإعلامية الأخيرة التي أقدم عليها محمد أوجار ليست سوى محاولة غير محسوبة تهدف إلى إخضاع مؤسسات الدولة المستقلة لمنطق الحزبية الضيقة، وتقويض التوازن الدستوري الذي يضمن استقرار الدولة. إلا أن هذه المحاولات ستجد أمامها شعباً واعياً يقف صفاً واحداً دفاعاً عن الشرعية الملكية والمؤسساتية، التي تُمثل ضمانة أساسية لاستمرار الدولة وتقدمها.
وكل مواطن غيور على بلده يؤمن بأن النقاش العمومي يجب أن يركز على تعزيز التلاحم الوطني واحترام استقلالية المؤسسات بعيداً عن أي نزعات سياسية تسعى لتفكيك التوازنات التي صنعت استقرار الوطن لقرون مضت. واليوم ستظل صامدة للدفاع عن الدستور ومبادئ الحكامة التي تحفظ حقوق الجميع وتضمن مساراً مشتركاً نحو التنمية والاستقرار.
ويمكن تلخيص أبرز النقاط التي أثارها أوجار والردود التي وجهت له كما يلي:

انتقاد آلية التعيينات الملكية على رأس مؤسسات الحكامة

في تصريحاته الأخيرة، انتقد محمد أوجار تعيين الشخصيات، المشهود لها بالنزاهة والكفاءة والوطنية، على رأس مؤسسات الحكامة خارج إطار الاقتراع الانتخابي، معتبراً أن هذه التعيينات لا تعكس الإرادة الشعبية.
أقول للوزير والدبلوماسي المحترم إن التعيينات الملكية ليست مجرد إجراء بروتوكولي كما يحاول تصويرها، بل هي آلية دستورية مُحكمة تهدف إلى ضمان استقلالية مؤسسات الحكامة عن أي تأثير حزبي أو انتخابي. الهدف الأساسي منها هو حماية هذه المؤسسات من الانحرافات السياسية، وتأمين حيادها لتؤدي دورها الأساسي بعيداً عن التقلبات السياسية والحزبية. التعيينات الملكية تستند إلى معايير الكفاءة والخبرة، وليس إلى منطق المحاصصة الحزبية التي يسعى البعض إلى فرضها.
وكرد على هذا التصريح غير الموفق، يمكن القول إن موقف أوجار يعكس فهماً محدوداً للدستور المغربي، الذي يقوم على التوازن الدقيق بين الشرعية الشعبية (المبنية على الانتخابات) والشرعية المؤسساتية (المبنية على التعيينات الملكية). هذا التوازن يُعد من الركائز الأساسية التي تضمن استقرار الدولة، وتحمي مؤسساتها من التأثيرات الحزبية والسياسية الضيقة.
محاولة التشكيك في آلية التعيينات الملكية تُظهر تجاهلاً للهدف النبيل من وراء هذه الآلية، وهو تحقيق الحياد والاستقلالية، وضمان استمرارية العمل المؤسساتي بعيداً عن الحسابات السياسية. التعيينات الملكية لا تُصمم لإرضاء جهة سياسية بعينها، بل لحماية مؤسسات الدولة من المساومات الحزبية وضمان عملها بكفاءة لصالح جميع المغاربة.
من المؤكد أن تصريحات أوجار لا تخدم النقاش العمومي البناء، بل تسهم في خلق جدل غير مبرر حول آلية دستورية متينة تُعد من ركائز استقرار الدولة. على العكس، يجب أن يكون النقاش حول كيفية تعزيز دور هذه المؤسسات المستقلة وحمايتها من أي تأثير خارجي، لضمان مساهمتها الفعّالة في تحقيق التنمية والعدالة والاستقرار في البلاد.

النزوع نحو الهيمنة الحزبية في المشهد السياسي الوطني

تصريحات محمد أوجار تعكس نزعة الحكومة نحو الهيمنة على الفضاءات المدنية والمؤسساتية، وتحويلها إلى أدوات حزبية تخدم أجندتها، مما يشكل تهديداً للتعددية السياسية واستقلالية مؤسسات الحكامة. هذا التوجه يفاقم من خطورة إغلاق الحقل السياسي وتكريس سلطة الحزب الواحد، ما يؤدي إلى تآكل الثقة الشعبية ويهدد استقرار البلاد ومستقبل الديمقراطية. الحفاظ على استقلالية مؤسسات الحكامة يمثل ضرورة حتمية، إذ تُعد ضمانة لاستقرار النظام السياسي وتماسكه بعيداً عن النزعات الحزبية.
وفي هذا السياق، أشار أوجار إلى ضرورة أن تستند التعيينات في مؤسسات الحكامة إلى لوائح الأغلبية الحكومية، باعتبار ذلك ضماناً للتمثيلية السياسية. هذا الطرح يناقض بشكل صريح روح الدستور المغربي، الذي ينص على استقلالية التعيينات الملكية عن أي تأثير حزبي. هذه الاستقلالية تضمن استمرار العمل المؤسساتي بعيداً عن التجاذبات السياسية، وتحمي هذه المؤسسات من الانحرافات الحزبية، مما يجعلها ركيزة أساسية لدعم الاستقرار المؤسساتي وخدمة المصلحة الوطنية.

محاولة «التطهير الإيديولوجي» لمؤسسات الحكامة

يفهم من تصريح اوجار للصحافة أن وجود كفاءات ذات توجه يساري على رأس مؤسسات الحكامة يتعارض مع مشروع الحكومة الليبرالي. غير أن التعيينات في هذه المؤسسات تستند إلى معايير الخبرة والكفاءة، وليس إلى الانتماءات الحزبية، بما يعكس الإرادة الملكية في ضمان حياد هذه المؤسسات واستقلاليتها عن التجاذبات السياسية، لتركيزها على أداء مهامها بفعالية ومهنية.
من المؤكد أن الوزير والديبلوماسي والسياسي المحنك أظهر فهماً خاطئاً لدور مجالس الحكامة من خلال ربطها بأداء الحكومة، حيث طالب بتغيير زمنية عمل هذه المجالس لتتماشى مع الأغلبية البرلمانية الحالية. هذا الطرح يعكس تجاهلاً لطبيعة عمل مجالس الحكامة التي صُممت لتعمل بزمنية مختلفة ومستقلة عن الزمن السياسي للحكومات المتعاقبة.
وتناسى أن دور هذه المجالس يتمثل في ضمان استمرارية المشاريع الوطنية الكبرى والاستراتيجيات بعيدة المدى، دون أن تتأثر بتغير الحكومات أو أجنداتها السياسية المتقلبة. هذا الاستقلال الزمني يعزز حيادية هذه المجالس ويمكنها من التركيز على تحقيق الأهداف الوطنية المشتركة التي تخدم جميع المغاربة بعيداً عن الحسابات الحزبية. محاولة تسييس هذه المجالس تتناقض مع روح الدستور وتُضعف دورها كمؤسسات رائدة في دعم التنمية والاستقرار المؤسساتي. ومع ذلك، تسعى الأحزاب الليبرالية جاهدة إلى ضم مؤسسات الحكامة إلى دائرة الريع السياسي والانتفاعي، مما يشكل تهديداً مباشراً لدورها الأساسي كمؤسسات محايدة تخدم المصلحة العامة وتُعزز قيم الشفافية والمسؤولية.
خلاصة القول، تصريحات الوزير والدبلوماسي تضمنت انتقاداً للتعيينات الملكية على رأس مؤسسات الحكامة، مع الدعوة إلى هيمنة حزبية على الفضاءات المدنية والمؤسساتية، ومحاولة تطهيرها إيديولوجياً من الكفاءات اليسارية، إضافة إلى فهم خاطئ لدور مجالس الحكامة بالمطالبة بربطها بأداء الحكومة وزمنية الأغلبية البرلمانية. كان عليه، خلال لقائه الصحفي، أن يستعرض إخفاقات حكومته وضعف أدائها في تنزيل التوجيهات الملكية، وفشلها في تفعيل الحوار الاجتماعي مع الفرقاء المهنيين، وعزلها للمعارضة الاتحادية بالبرلمان، خاصة وأن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يتوانَ عن تسليط الضوء على هذه الإخفاقات من خلال أجهزته الحزبية.
في هذا السياق، كان من المنتظر أن يستغل الوزير اللقاء الصحفي لتسليط الضوء على إخفاقات حكومته، لا سيما في ما يتعلق بتأخرها في تنفيذ التوجيهات الملكية، وعجزها عن التفاعل مع الفاعلين المهنيين ضمن حوار اجتماعي بنّاء، وتهميشها لدور المعارضة داخل البرلمان. غير أنه اختار مساراً مغايراً بتجاهل هذه النقاط الحساسة، ما دفع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبر أجهزته الحزبية، إلى تقديم ردود مدعمة بالحجج والوثائق التي تكشف عن هذه الإخفاقات.
وفي تصريحاته أمام أعضاء المجلس الوطني للشبيبة الاتحادية، أكد الكاتب الأول للحزب، الأستاذ إدريس لشكر، على تصاعد مظاهر التغوّل التي تنعكس سلباً على المشهد الوطني، سواء على المستوى الدستوري، أو التشريعي، أو السياسي أو الاجتماعي. ودعا القائمين على الحملة الموجهة ضد مجالس الحكامة إلى تجاوز منظورهم الحزبي الضيق، والتحلي بالشجاعة لفتح حوار دستوري شامل يهدف إلى تعديل الدستور وإعادة النظر في مبدأ فصل السلطات، بما يضمن توازناً أكبر داخل النظام السياسي المغربي ويخدم المصلحة العامة للبلاد. وأشار إلى أن إثارة قضية التعيينات في مجالس الحكامة يجب أن تترافق مع شجاعة طرح مراجعة الدستور إذا كان ذلك جزءاً من منظورهم للإصلاح، بعيداً عن الحسابات الحزبية الضيقة. وعلى الأغلبية الحالية إما أن تنتقد ما جاء على لسان قائد سياسي ينتمي إلى الأغلبية الحكومية وتعيده إلى الصواب، أو أن تمتلك الشجاعة للتصريح علناً بأن الدستور المغربي يشكل عائقاً لعملهم الحزبي. وفي هذه الحالة، يكون عليهم تبني مراجعة صريحة لصياغة اختصاصات المؤسسات الدستورية وفق منطق الريع السياسي، الذي بات اليوم متجذراً في الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لحكومة الاستبداد والتغوّل، مما يهدد التوازن المؤسساتي ويضعف ثقة المواطنين في العملية الديمقراطية.

(*)عضو لجنة التحكيم والأخلاقيات بالحزب

الكاتب : محمد السوعلي(*) - بتاريخ : 23/11/2024