رواية أوراق لعبد الله العروي

خلال مصطفى

وظف عبد الله العروي شخصية (شعيب) ليكتب (الأوراق).
الرواية ( سيرة ذهنية)، سيرة ذهنية؟ عبارة لا تحمل معنى مألوفا. هل يتعلق الأمر بترصد العمل الفكري لشخصية (ادريس) التي تبقى الشخصية المحورية في نص (أوراق).
ادريس مثقف، وهو في الرواية شخصية متخفية تحجبها صور من التمويه الذي هو من صميم تقنيات الكتابة الروائية عموما، وعند العروي خاصة. فلكأن الروائي هنا، في هذه الرواية كما في روايات أخرى له، يقول لقراء محددين: تعرفونني كمؤرخ وكمفكر، ها أنا أقدم لكم شخصية (ادريس) الذي يتعين عليكم أن تفهموا من خلاله كل مشكلات المثقف يحمل على أكثافه أثقال هَم هُوَ هَم تغيير المجتمع العربي وتحريره من التخلف الحضاري الذي يعاني منه منذ قرون.
نعم، هناك عناصر تساعدنا على كشف مكونات هذه الشخصية والنبش في إشكالياته كمثقف، غير أن هناك أيضا ما نفتقده كليا في مجمل تلك العناصر…فيدعونا الأديب إلى الغوص فيها بخيالنا. ولكن الخيال خيالات هي بعدد أفراد القراء للرواية. ويبقى المحظوظون وحدهم أولئك الذين يقرؤون أعماله الفكرية خاصة. تلك العناصر المفقودة تُشْعِرُ القارئ بأن الروائي تعمد إتلافها في منعطفات الحكي، بل لعلها تائهة، معتمة حتى في ذهن صاحب النص الروائي. إنه يسعى إلى فهم نفسه من خلال التعبيرات الفنية التي هي هنا مشخصة في تقنيات الكتابة، تقنيات خاصة جدا.
عزلة ( ادريس ) – وهي ذاتها عزلة المثقف عموما – وبحثه المضني عن استقلال ما، وعجزه عن التخلي عن الثقافة بكل صورها بالرغم من اشمئزازه منها، يجعله عاجزا أيضا عن فهم نفسه. فهل يفيده الاحتماء بمفكرين كبار عاشوا ذات الأزمات: مثل الفيلسوفين الألمانيين نيتشه، وشوبنهاور مثلا؟ فلا الاستحمام الذي يجيده في الثقافة وفي الفكر، ولا أخذه التاريخ رداء ثابتا قاداه إلى الطمأنينة التي يسعى إليها. لا مهرب من البحث عنها لدى من عاشوا نفس التجربة الروحية من كبار الفلاسفة. ذلك أن للخلاص طريق أو طرق تؤدي إليه بعد حيرة عظمى مستغرقة زمان شخصية (ادريس) كله من الطفولة إلى الرشد . ( من «الصديقة» إلى مراكش إلى …باريس…إلى البيضاء..) غير أن طريق الفيلسوف نيتشه لم تقد سوى إلى مزيد من الاضطراب وتعاظم للحيرة. لقد احتقر التاريخ والثقافة لكنه لم يستطع التخلي عنهما وهو ما جعله يتوجه إلى التعبير الفني، ذلك أن راحته لا يجدها في شيء بما في ذلك التعالي العقائدي نفسه. غير أن الفن له ثمن لم يؤده، فلم يتيسر له بالنتيجة هذا الفن الذي وحده يتيح نسيان العالم وضغوطاته وجبروته. ولكن مشكلة (ادريس) ليست مشكلة تخص ذاته وحده، إنها تخص كيانا اجتماعيا كاملا. ليست القضية قضية فردية، إنها قضية مجتمعية. فأزمات ادريس حتى وإن كان يمثل المثقف هي في حقيقتها أزمة شاملة تخص المجتمع الذي ينتمي إليه والذي يريد إرادة ملحاحة تتوجه إلى تغييره . من هنا فإن طريق الفن والذي هو طريق فردي ليس سوى وهم من كَم الأوهام التي يسقط فيها الفرد الساعي إلى الخلاص.
إن تتبع (ادريس) لطريق الفيلسوف شوبنهاور ذي الفلسفة القائمة على اعتبار» العالم إرادة وتمثلا « – وهو عنوان كتابه الرئيسي – والتي هي فلسفة تشاؤمية، لم يقد إلا إلى الفشل. ونفهم أن الفشل المقصود هنا من خلال محطات السرد في رواية (أوراق)، فشل جماعي، فشل الجماعة التي ينتمي إليها (الراوي) و(إدريس) معا . الجماعة التي انتهى به الأمر في لحظة من لحظات تجربته الحياتية القاسية والفائضة بالمعاناة، إلى التبرم منها تحت تأثير الفلسفة النيتشوية، وهو ما تعارضه فلسفة شوبنهاور التي تعتبر حب الجماعة من أرقى القيم وأسماها..
حكم متأخر في حياة شوبنهاور، وهاهو( ادريس ) يكف في النهاية عن الجري وراء الحنين كي ينغمس في شؤون الجماعة. هذا ما حصل لشوبنهاور: عمل على ترسيخ الذات كمحور للوجود، وجوده ووجود المحيط. هكذا ازدرى الكيان الجماعي معتبرا الذات هي كل شيء، ثم اكتشف أنه كان على ضلال فأنكر الذات وعاد إلى الجماعة: (الأنا) و(الغير)، (الغير) و(الأنا) هما محور تشكل الوجود الفعلي وليس الوهمي في رواية (أوراق)، وهما قضيتان فلسفيتان وتاريخيتان لهما كل الأهمية في فهم الرواية التي هي بالفعل سيرة ذهنية لكاتبها…لكنها أيضا من صميم واقع جد معقد، تترجم ذلك المرجعيات الفلسفية والفنية والموسيقية والسينمائية التي ترد في الرواية رموزها بأسمائهم ككانط وهيجل وغوته إلخ…
ومما يشد الانتباه أن الرواية مجزأة بدقة متناهية – بالرغم من كل أشكال التخفي السردي المقصود قصدا – كي يشمل كل فصل من فصولها مكونا من مكونات الفضاء التكويني للعالم السردي. نتابع السرد عن الوطن والعائلة والتكوين المدرسي، يليه سرد تكوين الهوية، ثم سرد التعبير والذوق والفن والعاطفة. ومهما يكن فإن (ادريس) في الرواية إنما يترجم في نظرنا العالم الوجودي لجيل هو نفسه جيل الأديب عبد الله العروي بكل ما أضحى يحمله هذا الاسم من حمولات تصلح هي نفسها موضوعا لرواية أخرى يكتبها أغيار. لن يحتاج لليوميات والخواطر والرسائل والاختبارات المدرسية والمذكرات والمقالات والعروض والمراجعات، على النحو الذي قام به (شعيب) في رواية (أوراق)، بل إلى أكثر من ذلك وأعقده وهو كتب وروايات الروائي هذا : عبد الله العروي ذاته. فالرجل يشبه من جوانب عديدة المؤرخ ذا الصيت الصادح: عبد الرحمان ابن خلدون…وهو ذاته الصيت الذي يميز الروائي على الأقل في العالم العربي الذي تسكن المثقفَ العربي إرادةُ تغييره…
وبعد فإن نظرنا هذا ليس نقدا أدبيا، فذلك ليس شأننا، وإنما هو نظر فكري جد موجز إلى رواية (أوراق).

الكاتب : خلال مصطفى - بتاريخ : 05/07/2022

التعليقات مغلقة.