سنواصل «الحلم وقوفاً» بكلمات الحقيقة والخيال
أحمد المديني
لم أبدأ كتابةً لي أبدا بكلام غيري، لكن إذا يغْني عني ويتمثل قولي أفضل مما قد يطوله قلمي، فإني أسوقه هنا مترجماً حرفا، لا للاستشهاد، بل أتبناه صوتا ومعنى ربما معي بعض قرائي، وبعد القراءة ستوافقونني، فإن كثيرا مما نظنه من بنات أفكارنا وطرائد خيالنا سبقنا إليه رواد وفاتحو آفاق، وبقليل من شحذ الذاكرة وفضيلة الاعتراف سنجده أدقّ وأبلغ، خاصة وقد وعينا بأن الأهم هو بلوغ المرام وشرف الرسالة؛ تقول الروائية الفرنسية Lydie Salvayre: «سيدي[ الخطاب موجهٌ إلى ميخيل دي ثربانتيس سافيدرا]، أقولها لك خاصة، فلا مزاج لي للضحك، والطرق التي تعامل بها دون كيخوطك لا تلائمني. تدّعي أن مخَّه مليءٌ بالتّرهات التي قرأ في الكتب ويظنها حقيقية تقوده إلى أفعال حمقاء. فهل من الحمق اعتبار أن الأدب ليس كلاما لا نفع فيه، طقمَ مدفأة، حليةً نافلة، بل هو عبارة حية، مشتعلة، وتجربة حميمية تقلب الحياة؟ هل التمرد على المفاسد التي نحن شهود عليها معيب، وأن نتصدى لها بالوسائل المتاحة، ولو بدفع الثمن؟ أومَشينٌ الوقوف سنداً للمحرومين كافة(…)؟ أم تفضل أن تصبح اللامبالاة والاستسلام والتخلي شاغلنا، ونكتفي برؤية بؤس الآخرين ما دام لا ينظر إلينا؟(…) أم أسوأ من هذا، لعلك تفضل عالما حيث لا نعتقد بشيء، ولا نكرّس أنفسنا لأي قضية، ونتبادل التهاني عندئذ بمقت؟ ربما تفضل عالما لا يبقى فيه حافز للفوران، اللهم أمام أسهم ترتفع في البورصة؟ عالم حيث الحماس والحيوية والرغبة الحارقة المتوحشة لا تنبثق إلا إزاء مشروع حصد مزيد من المكاسب المادية؟ واعذرني سيدي إذ أتوجه إليك بكلمات عصري، فكتابك [القصد رواية «ضون كيخوطي دي لامانتشا»] يعيدني بغضب إلى حاضرنا كدت أنسى أن أربعة قرون تفصلنا عنه»(Rêver debout)(غليمار،ص10).
هذا مقطع من الرسالة الأولى من بين خمسة عشر رسالة تمثل متن رواية الروائية الفرنسية ذات الأصول الإسبانية توجهها لجدها الروائي الأول ثربانتيس، جاعلةً موضوعها نقضَ الصور والفكرة الوصمة العالقة بشخصية ضون كيخوطي التي ذاعت قصتها في الآفاق بهيئة الشجاعة الخرقاء وتعريضه للهزء جرّاء مغامراته الحمقاء يبغي منها إزهاق الباطل وإنصاف المحرومين بعد أن لعبت برأسه حكايات مغامرات روايات الفروسية الشائعة في زمنه، وأراد ثربانتيس من خلال حكايته الخاصة السخرية بها ومن ثقافة وسلطة مرحلة بأكملها. جميع القراء علقت بأذهانهم صورة (الهيدالغو) بعد أن طارت بلبه وخياله روايات الفروسية وإذا به ينتفض ذات صباح على وضعه العائلي والاجتماعي الرّخي فيتخلى عن وقاره ودَعَته ويرتدي لباس الفرسان ويمتشق سيفه ويتخذ الرفيق التابع( سانشو) ويمضي في البراري ليطارد أعداء متخيلين، لا عجب جسدهم هوسه المسكون بالحكايات في شكل طواحين الهواء فهبّ ينازلها. عموما، هي الصورة المبتذلة المتداولة عن هذه الشخصية التراجيكوميدية ومفتاح فن الرواية الحديث انطلاقا من هندستها التخييلية ظهر جنس أدبي حديث وتطور شكلا ومضمونا، الواقع منبعُه ومحتِده، دائما، ومداه وأفقه تأويله وتحويله في صيغ متخيلة إما تُكمِل النقص أو تبحث عن يقيم للنفس البشرية عبر مسارات حياة مادية ما تنفك تتطور ومجتمعات وإنسان يتغير.
الطريف في كتاب سلفير، الذي ليس رواية بالمعنى التقليدي، أي بقصة وحبكة وأحداث وشخصيات الخ أنها في رسائلها المفترضة طبعا وهي أشبه بنوع من حلم اليقظة(الحلم وقوفاً)، تتصدى للدفاع عن الشخصية الكيخوطية تردّ عنها ما تعتبره غائلة طالتها من المؤلف بتهم الحمق والتهوّر والمخاطرة الخرقاء، وبذلك تنقُض الأطروحة، أو التصور الشائع عند المتلقين عبر العصور، بصرف النظر عن ستراتاجيم ثربانتيس الأصلي، لأن كل كتابة تخييلية تنبني على قاعدة القلب والتحويل وحتى المسخرة(le ridicule) ومن يريد الحقيقة عليه أن يبتعد عن الرواية وعن الأدب عموما، لا لأنه ضدها بل لأنه يُعليها فوق الابتذال وسطحية التناول. ما تفعله الروائية الفرنسية خلافاً لكاتبات وكتاب جيلها ومن بعدهم ممن احترفوا الحميمية وتورّم الأنا بمحكيات الذوات والغرف محكمة الإغلاق ونفض اليد من أي التزام أو هَمٍّ جمعي، أنها بدفاعها عن ضون كيخوطي الفارس الأخرق تدافع عن شجاعة غائبة وإقدام مفتقد حتى ولو بجريرة تهم الجنون والظهور، كما أمعن ثربنتس في التصوير والتشهير ببطله أضحوكة، وبذا تدافع عن قيم انهارت في العالم الحاضر وتسعى إلى إعلائها عبر استعارة روائية، هكذا الاستعارة ليست حِلية كما عند البلاغيين بل مصنوعة وهي صورة لصورة أخرى لمضمون.
إن أهم ما تقوم به هذه الكاتبة التي نراها تبجّل الأدب، وتسعى إليه هو إعادة الاعتبار للخيال، أخرق أو كيفما كان. فقد أطلق له ثربانتيس العنان من قلب السخرية به، أي خيال روايات الفروسية لعصره(القرن السادس عشر)، ومن هذه المفارقة يعطي لبطله الحق في الوجود، وبعد أربعة قرون تلوذ به الفائزة بجدارة بجائزة الغونكور سنة 2014 عن روايتها( لا تبك) تتخذه قدوة وذريعة وقناعا كي تجهر أمام الناس وفي وجه العالم الفظ بحقائق أليمة وقاسية. كتابة بصيغة مرافعة بليغةعن متهم مغبون( ضون كيخوطي) تهمتُه أنه اندفع هائجاً ينافح عن المظلومين ويتعرض لسطوة الحكم والكنيسة والإقطاع مستعبدة المحرومين، هو المسكون (روائيا، أي خياليا) بأجواء ونقع الفروسية الروائية المرَضية، ومن تَماهى الخيالُ عنده بالواقع لا فرق قط، فاصطدم به بحدة ورغم هذا جرؤ على الفعل، بذا اقترنت عنده، كما يحب الفيلسوف دولوز أن يقول، الفكرة مع العمل. وبالمقابل، جاءت الكتابة صك اتهام ضد نقائض المرافعة، إنهم أعداء العدل والمساواة وخصوم الخيال، وماذا يكون غير الشجاعة سبيلا للحرية، وهل من كتاب، تقول تسأل سلفير أنبِس أستنكر معها فوق شفتيها، بلا شجاعة؟!
نحن، أو منا اليوم، أيضا، ضون كيخوطيون. ليكن، إنا نحارب طواحين الهواء ليكن، وقد جنن خيال الفروسية رؤوسنا ولن يخمد، لأن لنا في الجنون ألوانا، ومن وجد في نهج البطل السرفانتيسي هذيانا، فهو يبقى أهون بكثير من رعونة الأتباع وجشع أغنياء المطامير وخنوع العبيد. كذلك، ومرة أخرى، أستعير لسان سلفيير، لا تساهل مع كتاب الضحالة والسهولة الملفقين، متسوّلي منح الدولة وبركة (الشيوخ) اؤلئك، مُحبِّري سير مزورة ، نبّاشي قمامة، نجوم تلفزيون بالمقايضة والاستجداء. حرفتهم رخيص الكلام وإما التعيّش على فضائح تقدم لهم جائزة كي تفوح نتانة من ألسنة وأقلام للبيع. لذلك، أنا الكيخوطي الجديد أضم صوتي إليها ولا أرى من خلاص إلا في الأدب، إنه ليس القصيدة وحدها، هو ما يقرن العقيدة بالفعل، ويسمو بالمثل، ويهز الجامد ولا يساوم أبدا بالحرية.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 03/11/2021