شتات بين الموت والحياة
أحمد المديني
مُشوّشاً في أيامي الأخيرة، وأريد أن أهدأ، وإلا إن غلا دمي فأين سيفيض والعالم حولي مثخن بالجراح. البشرية،الآن، في موت سريري تنتظر لقاحا ينقذها من الهلاك، وحتما لتواصل معطوبة عيشاً مكروراً لرغبات ومطامح سريعة التلف. لا أتحمل التكرار. إنه موت بلا جدوى، فأن تموت بجد ينبغي أن تكون قد عشت حقا بمعنى. لذلك ترددت طويلا قبل أن أذهب صبيحة اليوم إلى متنزه الحي لتنفيذ رغبة ألحت عليّ الليل كله، لا أخفي شغلني أمر شابين رأيتهما قبل أيام جالسين بسكينة مطلقة، غبطتهما في البداية، ثم أغاظاني بشدة. بدت سكينة مخاتلة،حدَست فيها شماتة، لا يبدوان يغليان من قلق، مثلي، بالزمن المهدور في شهور الوباء، يهرب منا، مني أنا الذي انتقلت إلى الضفة الأخرى من الحياة، لن يعوّضه لي أحد أو شيء، بل على أمثالي أن يعتبروا أنفسهم محظوظين، خطاب لا يقوله الفتية الذين يمرون بمن يتخطاهم سِنا بكثير، لكن في نظراتهم بعض المكر وحتى الاستغراب، ياه، ما زلتم أحياء؟! ياه، تتهمون الشباب باستمرار موجة الوباء لأنهم ممتلؤون بطاقة فترت في أجسادكم، من الحب والشهوة والأمل في المستقبل، وبالرغم من هذا تتشبثون بشروق يوم جديد؛ هيا، موتوا، لتمرح أجيال أخرى لا تبالي مثلكم بالوباء ولا الوبال!
أسعفني هيرفياوتليي بخياله العلمي في روايته L’anomalie (جائزة غونكور، هذا العام) فجعل مني اثنين، وهكذا فمثيلي هو الذي ذهب إلى المتنزه وليس أنا، ومن الآن فهو من يفعل ويتكلم. في أقصى جنوبه «المدرسة العسكرية»المبنية سنة 1750، تخرّج منها نابليون وبعده لفيف ضباط أفارقة أشاوس أصبحوا رؤساء دول بعد انقلابات عسكرية مظفرة. هنا ورش ضخم لبناء» قصر صغير» حسب إرادة عمدة باريس التي تكره السيارات وتريد أن تحوّل المدينة إلى ممرات للدراجات لترضي (الخضر)، وتبال(الحمر)، لا أحب خطط هذه العمدة كأن لها ثأراً مع هذه المدينة فتمعُن في قصقصتها. القصر، لإيواء جزء من الألعاب الأولمبية (2024) والعمال جلّهم عرب مغاربيون…
يُعلون مجد بلد يعانون فيه من التمييز، الفرنسيون عجبا لا يعملون في البناء وأيّ شغل شاق، يعجبهم كثيراً الصراخ والاحتجاج في المظاهرات وهم يبتلعون النقانق ويحتسون الجعة، تباعا. لم أعثر على ضالتي. الشابة والشاب، أنتبه للتو أنهما ذوا سحنة عربية. هما إذا طالت جلستهما هنا فلأنهما عاطلان، وكم أصبح شاقاً أن يجد مهاجر عربي العمل في جمهورية ترتاب هي ومقاولاتها وشعبُها في السحنة السمراء، وهكذا كانا يزجيان الوقت في الانتظار. ثمة احتمال أن سيارة للشرطة تتسلل عادة للمراقبة، إذ حول هذا المتنزه إقامات لفئة مميزة، منهم عرب أثرياء، ساءلَتهما عن الهوية وما استتبع لو أنهما بدون إقامة قانونية. ربما أستفسر عنهما فرنسيات مسنات يحضرن هنا كل صباح مع كلابهن، اثنان من فصيلة دوبرمان واثنان لابرادور، وهم حولهن في جلبة وعضٍّ متبادل وقفز على كرات ترميها السيدات يسعدن بمرحهم في وسع المكان، باديات الارتياح يقضين وقتا ممتعا، تقاعدُهنّ وموتهنّ مؤمَّن..أوقفت سيلَ وسواسي، لي غير هذا يشوّشني، وينبغي أن أحسم. كان صديقي الروائي الشامخ عبد الرحمن منيف حين نلتقي أسبوعيا في مقهى»Le Dôme» يهوّن علي بحكمته كلّ همّ، يُخرج ورقة ويضعها فوق المنضدة ويرسم دائرة، اسمع، أدخِل همومَك كلّها في هذه الدائرة واحصِها وتعاط معها ثم واصل حياتك، لكن آخرين أقوى من عبد الرحمن وباهي محمد، ومني، أدخلونا في الدائرة وأغلقوا علينا وفيما هما رحلا غدراً فلتت بأعجوبة. الآن، قلت، بات عليّ أن أتدبّر أمري وحدي. مالي وللعجائز والكلاب وخطط هيدالغووالخضر والحمر، وجنون ترامب بالحكم كأي عقيد في جمهورية موز، عندي أمور عاجلة ينبغي أن أقولها بغضب تراكمت في نفسي أخيرا في هذا البلد، وأرسل الكلام عنها طلقات مسددة. إنما قبل هذا أحتاج إلى مضمار، ولأجلب الجمهور إلى طبل ومزمار، الجمهور هو الأصل لا الزعيم، القارئ قبل الكاتب، إذا كنت تفكر بغير هذا فإنك على ضلال، هُراء هذا التواصل المزعوم عن بُعد، ألقيت أخيراً محاضرة على طلاب باحثين، فكان لقاؤنا فاتراً ينقصه التبادل الحيوي، والصوت تشمّه تلمسه والهواء المشترك مليء بحرارة الإنسان والمكان.
وإذن، أنا خرجت لأبحث عن الإنسان، والإنسان اليوم هارب من آخَرَ أفتك من الطاعون. عندي كثيرُ أفكار وخزّانُ ذكريات وبركانُ عواطف، هذا لا يكفي، تحتاج إلى جليس وشريك وحضن. وجدتها، وجدتهم أجمعين، كما لو أنك في (الهايدبارك)حديقة حريات لندن، ورفع عقيرته، بدأ بما يجلب الأنظار والأسماع، لأستفزّ القوم أعلنت أن أعظم ما حدث لنا هو الكوفيد، ذكّرنا بأننا صغار جدا، وقلّص الفوارق وقصّ ذيل الطواويس، ونبّهنا لهشاشة الحريات، بسرعة يمكن لبضعة أفراد أن يقرروا في مصير البشرية. صاروا عشرة، صرخ، انظروا إن الجمهورية تريد أن تبتر لسان الصحافة وتطفئ عين الكاميرا، صاروا عشرين؛ انظروا بعض الشرطة أصابهم جنون البقر قبضاتُهم تسبِقهم، فسمع هتافا يسانده، انظروا، نائبان من البرلمان يطالبان بتحقيق في تدريس العلوم الاجتماعية، لو كان Bourdieu حيّاً أوَلَن يُجَنّ؟! بلى، ندّد مئات من طلاب معهده في شارع راسباي. وأخيراً قال، لن يفوتني الحديث عن الإسلام والمسلمين، نعم هناك متطرفون، ظلاميون، تموّلهم دول تعرفونها فلماذا لا توضحون لها الأمور، وهناك الآخرون مسالمون، يأكلون البيض والطماطم ويرسلون المال إلى أهلهم في لبلاد وعندهم وزير «مكلف» بهم لا يعرفون بماذا. لم يبد على الجمع أنه يفهم الكلام، ولكي أجذب الجمهور أضفت، لكنهم يرفضون الاندماج، عليهم أن ينسوا أنهم عرب وأفارقة ومسلمون، وأن العلمانية ببساطة لا تقبل هذا الدين، سمع هتافا: نعم، أصبت، عليهم أن يعودوا من حيث أتوا قبل أن يُرحّلوا، أظن أنهم رفعوني على الأكتاف، هذا هو الصواب، أراد أن يضيف، ألا ترون أن هذا يتعارض مع مبادئ الجمهورية، أن متيران من سوّى وضعية عشرات الآلاف من السريين ما كان ليقبل ما يجري،، لم يكمل عبارته إذ وقفت سيارة بيضاء نزل رجال أشداء بوِزْرات بيضاء،فقمّطوه في كسوة بيضاء ورموه في جوف سيارتهم ورئيسهم يقول بحسم ، أوه، كم نبهناه، أما الآن فلا مناص من St Anne!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 09/12/2020