شيرين أبو عاقلة تسائل الغرب

مصطفى خُلَالْ

السيد بيرنار هنري ليفي،
أنت فيلسوف فرنسي، وكاتب، وسينمائي، وميلياردير. وأنت أيضا رجل سياسة تمارس السياسة بشكل ومضمون مختلفين، ولأنك تنتمي إلى عالم الفلسفة التي تقر بأن الإنسان واحد والثقافات مختلفة، فإني فكرت أن أخاطبك على لسان شيرين أبو عاقلة حية ثم مغتالة ثم محمولة في تابوت ثم ضحية هجوم صهيوني وهي في تابوتها، ثم وهي تستمع لآخر صلاة تقام لتوديعها الوداع الأخير في كنيستها الكاثوليكية المقدسية قريبا من المستشفى الفرنسي بمدينة القدس العربية الفلسطينية.
تقول شيرين:
نعم أنا فلسطينية ومقدسية وعربية ومسيحية، لكن قبل هذا كله وبعده أنا صحفية ذلك أنه وبالرغم من أني منحازة إلى قضية شعبي فإني مطالبة بأداء واجبي الصحفي في أن أنقل الخبر الساخن في لحظته وفي موقعه . وما دام الفضاء الذي أجدني دائما فيه هو فلسطين كساحة صراع قُدرَ على شعبي، عرب فلسطين، أن يخوضوه، مضطرين لا مختارين، فإني أعي كل الوعي قيمة ورجحان سلاحي، سلاح الكلمة الملفوظة الطائرة في الأثير، وأعي أيضا أكثر ما أعي مُسَلِمَةً به كل التسليم، أن هذا السلاح شرعي تقره كل المواثيق الدولية، غير أنه في حالتي الخاصة كما هي حالة شعبي سلاح متفرد: متفرد لأنه سلاح مقاومة. المقاومة التي تسميها أنت ومعك دولتك الثانية: إسرائيل، تسميانها ‘’إرهابا’’. وإني لأعرف وأسلم بأن صحفيي الحرب، وهم يخرجون من بيوتهم، يعلمون علم اليقين أنهم قد يتعرضون لرصاص يخطئ هدفه، يعلمون أنهم وهم يودعون أهليهم متوجهين إلى ساحة الخبر، وهي ساحة حرب، يعلمون أنهم يحملون موتهم على أكفهم مدركين كل الإدراك أنهم قد يعودون وقد لا يعودون. وهو ما وقع لي أنا بالضبط، خرجت من بيتي المقدسي متوجهة إلى جنين، ساحة معركة كما تعرف، ونحن نقوم بعملنا، المصور وأنا، هو بسلاحه، كاميراه، وأنا بسلاحي، ميكرفوني، فكانت الرصاصة الجبانة والتي صوبت إلى رأسي عن قصد وترصد وإصرار لا حدود لجبنهما. لذا فإني أحمل دولتك الثانية، العسكرية، كامل المسؤولية في اغتيالي. نعم، لقد اغتالتني الصهيونية التي لا تكف تدافع عنها. أنت تقول وتردد وتكرر بدون أن تتعب بأنك صهيوني حتى النخاع، بل وتجرؤ على ترديد أن ‹› الصهيونية حركة فكرية وسياسية إنسانية ديمقراطية’’.
نحن نراك تطير إلى كل بقعة فيها صراع مدعيا أنك تدعم القضايا «العادلة’’. هكذا رأيناك في ليبيا المغتالة تبارك الفوضى وتنتصر لاغتيال رئيسها الشرعي بأقبح صورة عرفها التاريخ. وإنك لسعيد كل السعادة للمصائر التي شتتت وتشتت الشعب الليبي، أنت اليوم في غاية السعادة للفوضى في ليبيا. نعم أنت تسعد لشقاء الشعوب. تماما كما رأيناك تطير إلى (الميدان ) في العام 2014 ، بأوكرانيا كي تدعم انقلابا سميتموه ديمقراطية. من كوسوفو إلى طرابلس إلى كييف، دائما نجد الفيلسوف الملياردير بيرنار هنري ليفي، يسمي الانقلابات ديمقراطية، وحركات نضال الشعوب ديكتاتورية. هي ذي ديمقراطية الصهيونية. لم نرك في حصار غزة، حيث تقتيل الأطفال من طرف الآلة العسكرية الصهيونية، الصهيونية التي تقول عنها إنها حركة ديمقراطية، لم نرك تنطق حرفا واحدا حين جالت صورة الطفل العربي الفلسطيني حمال الدرة وهو يحتمي بإبط والده من رصاص نفس الآلة التي لا تخجل تقتل وتقتل الأطفال. وقبل ذلك لم نرك في حصار العراق، حصار ظالم عنوانه الطغيان والتجبر حرم حتى حليب ودواء الرضع والمرضعات لسنين طويلة انتهت بحرب مدمرة للعراق ادعى فيها الغرب الذي تنتمي إليه أنه أتى له بالديمقراطية، الديمقراطية المفترى عليها من طرف أمثالك، ديمقراطية الكذب على الشعوب ، ديمقراطية تزييف التاريخ وهدم الحضارات .
واليوم ومرة أخرى أصابك نفس الخرس. لم تتهم آلتك العسكرية باغتيالي. ولم تطالب بتقصي الحقيقة والقيام بتحقيق دولي وتحديد المسؤوليات. لم أنس تصريحك المدوي قبيل انتخاب زعيمك ( ناتانياهو) بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في العالم التي تخضع عسكرييها إلى المحاكمة إذا اقترفوا خطيئة لا تغتفر.
حين شاهد العالم عساكر الصهيونية تهجم على تابوتي، والذي لعلمك كان يحمله فلسطينيون من جنين، من كل العقائد الدينية، أدرك أن الميكروفون حرص على أن يبقى ينقل الخبر من صلب الموت نفسه. لا أظنني نطقت بنفس القوة خلال كل عناويني الصحفية الساخنة مثلما نطقت وأنا محمولة على الأكتاف. كنت دائما أفضح الصهيونية في تغطياتي وأنا حية، لكني لم أحلم أني سأفضحها بقوة فصاحة التابوت.. إلى درجة أن الأمين العام للأمم المتحدة اهتز لتغطية تابوتي وطالب بتحديد المسؤوليات. إنها البربرية الصهيونية.
أظنك نسيت كتابك: (البربرية بوجه إنساني) الصادر نهاية السبعينيات. كنت شابا لا تزال، ورغم أن الكتاب الذي حين قرأته لم يرق لي- وهذه قضية بعيدة عن موضوع اغتيالي من طرف الآلة العسكرية الصهيونية التي تزعم أنت أنها لا تتردد في مجابهة عسكرييها المجرمين قضائيا – أقول : لقد بقيت وفيا لنهجك الذي دشنت به حياتك كمثقف غربي فرنسي صهيوني، والذي حرصت فيه على مهاجمة الفلاسفة التقدميين بمن فيهم الفلاسفة الاشتراكيون معتبرا أن الرأسمالية أنهت التاريخ. . حيثما كانت الفوضى فأنت هناك. وحيثما كان تحريف الفكر فأنت هناك وحيثما التزييف فأنت هناك.
لذا فإني لا أنتظر من أمثالك تحقيقا في الجريمة. ولا أنتظر منك إنصافا للعدالة. فأنت فيلسوف بلا فلسفة، وملياردير لا تفيد مليارديراتك أحدا في الأرض. هل تعرف لماذا لا أنتظر شيئا من أمثالك. لأنه لا ثمن للشهادة. الشهادة التي لا يمكن لأمثالك أن يفقهوها. أنا شهيدة وطن يسمى فلسطين، وما أكثر شهداء فلسطين، شهيدة قضية عادلة، قضية شعب، شعب الجبارين على قول شهيد آخر، عرفات، أبو عمار الفلسطيني، أنقل لك في ختام كلمتي لك قولته الشهيرة: (…عظمة هذه الثورة، أنها ليست بندقية، لو كانت بندقية فقط لكانت قاطعة طريق، ولكنها نظم شاعر، وريشة فنان، وقلم كاتب، ومبضع جراح، وإبرة فتاة تخيط قميص فدائييها وزوجها).
نحن الشعب الذي قاتلكم آبائي وأجدادي من كل معتقد لما يزيد عن سبعين عاما. وسنظل نقاتلكم. سنظل نقاتلكم جميعنا نحن الفلسطينيون يهودا فلسطينيين ومسيحيين فلسطينيين ومسلمين فلسطينيين، نقاتلكم كل هذه العقود بالرغم من دعم الغرب وأمريكا لآلتكم العسكرية، سبعون عاما ولم نحبط بالرغم من كل ذلك الدعم الطاغي وبالرغم من كل الانتكاسات .
أما الثمن فنعرفه: إنه الشهادة. وأنا شيرين أبو عاقلة لست سوى واحدة من قافلة الشهداء الذين يُعَرِفون فلسطين بنفس التعريف الذي يعرفها بها شاعرها، محمود درويش :
((إن سألوك عن فلسطين
قل لهم
بها شهيد
يسعفه شهيد
ويصوره شهيد
ويودعه شهيد
ويصلي عليه شهيد) .

الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 17/05/2022

التعليقات مغلقة.