عقدة الصغير المغربي ريان

مصطفى خُلَالْ
لم تكن ملحمة الإنسانية حول قضية ريان المغربي لتمر دون أن يسجلها التاريخ بمداد من الأسى، وهي والحق يقال ستشكل في التاريخ الوطني والعربي والإنساني عقدة.
الذين تلقوا العزاء هم والدة ووالد ريان، لكن كثرة متكاثرة كانت معنية بهذا العزاء، يوجد على رأس القائمة كل الذين شكلوا فرق وأطقم الإنقاذ لانتشال الطفل ريان من البئر، ومع المنقذين الحشود التي رفضت مغادرة المكان من شدة التعاطف مع ريان، غير أن قنوات تلفزية وضعت أمام شاشاتها امتدادات طويلة عريضة للحشود المحلية المغربية. هكذا أضحت الحشود حشودا من كل أطياف الإنسانية في العالم. ما أكثر اللاتي والذين لجؤوا إلى الفضاء الأزرق للتعبير عن تعاطفهن وتعاطفهم وتضامنهن وتضامنهم، وقد قرأنا قصائد شعر بعبرات ساخنة من نظم نساء أمهات وجَدًات تقطر ألما من فيض حنان لا نلفاه سوى عند الأنثى. ورأينا الشاشات من كل صنف تدمع، ونهض في العالم العربي كرنفال أسى دميع لأطفال، وارتجل طفل فلسطيني أغنية أسى عزفها على أوتار عوده الطفولي، وكذلك فعل طفل إسراىيلي. لأول مرة في التاريخ أحس أقوام من كل القارات أنفسهم معنيين بذات العزاء، وحتى العداوات تم الدفع بها صوب النسيان إن لم يكن صوب المحو النهائي، ووجدت الأمة المغاربية الممزقة نفسها على وحدة عاطفية فياضة مباغتة مفاجئة ريانة.
كل هذا كان بسبب تراجيديا وطنية كان ضحيتها الرئيسية طفل صغير من منطقة مدينة شفشاون المغربية.
إنها عقدة ريان المغربي، هكذا نصطلح على تسميتها . تتكون كل عقدة من عناصر تكوينية تتفاعل مع بعضها في الذات أو في مُسَطًح مجالي أو في نسق، وهو ليس تفاعلا خَطِيا، فينتج عنه سلوك نعجز عن التنبؤ به، أو على الأقل تبقى صعوبة القبض عليه بالغة جدا وذلك لكثرة العناصر المتفاعلة فيه تفاعلا لا يحكمه تنسيق يجري على مستوى مركز العقدة، أو على العكس تماما تكون تلك العناصر التكوينية قليلة جدا بحيث يصعب معها الكشف عن رؤية واضحة أو متيسرة البناء، هكذا تتكون عقدة ريان المغربي من حالة الطفل الذي تمتصه بئر عميقة جدا بغتة فتغير حياته تغييرا جذريا من طفل يعيش حياته في مجال مخصوص إلى كينونة إنسانية توقظ ضمير الإنسان أيا كان وضع هذا الإنسان، إنسان متيقظ أو إنسان لاهِ. وهي كينونة سرعان ما تتكشف عن حقيقة مرة كان مسكوتا عنها حد التآلف مع مآسيها.
لقد تم تشكيل فرق إنقاذ بسهولة بالغة، وتمت تعبئة رجال سلطة بيسر، وتم استقدام آلات ميكانيكية وجرافات ومواد هي خرسانة وقنوات، وجرى التحايل على البئر دون جدوى، اذ بدت الطبيعة هي الأقوى، وبدت التربة أكثر جبروتا لأنها تربة ضعيفة سريعة الانجراف، فكان من نتيجة كل هذا طول زمن الانتشال بصورة تكاد لا تصدق، طالت أياما وليالي يحار المرء في طولها.
نجحت فرق الإنقاذ في انتشال ريان – العقدة – المحلية. لكنها وهي تنقذه سرعان ما انطفأت فرحتها، وكذلك كان بالنسبة لكل الجموع في العالم، التي كانت تشد أنفاسها داعية بالسلامة لريان وبفك مأساة والديه التي تحولت إلى مأساة وطن ثم مأساة أمة ثم مأساة إنسانية. فرحت الجموع في العالم بانتشال ريان لكنها حزنت لمصيره، ورأينا في الشاشات كبارا من كل وضع يذرفون دمع فراق لم يكن له قًبْلاً أي لقاء سوى صورة لمنطقة شفشاون وصورة لريان ستبقى خالدة بابتسامته الملائكية .
بكى الناس ريان…فقد مات طفل البئر المغربي بعد انتشاله، كان الخيال وحده يروح إليه في البئر يستبطن محنته القاسية وحدته، ظلمته، آلامه لبرودة أو سخونة قاع البئر، جروحه التي لا يعلم أحد كيف هي، طفل صغير السن عاش كل هذه المأساة، حمله أطفال مخيمات في قلوبهم، فهم أخْبَرُ بالمحن، حملته أمهات من كل جنسيات الأمومة المقدسة، حملته القصائد استخرجها قراؤها من بواطن النسيان، حمله كبار الكتاب وكبار المغنين وكبار الفنانين وكبار التشكيليين وكبار الموسيقيين وكبار الساسة.
كم مات قبل ريان في مآس خالدة، المتزحلقات على الثلج الإيطاليات والإسبانية ومتسلقو الجبال الناطحة السحاب ومغامرو المحيطات، وراكبو الأمواج في البحار العاتية؟ كم؟ كثر. كثر. كثر متن وماتوا مخلفات ومخلفين دموعا وآلاما وحدادا ومعاناة لأهليهم ومواطنيهم.
أي نعم، لكن موت ريان وقضيته شكلا عقدة، عقدة بالمعنى الذي بسطناه، عقدة لن تكفيها فرق إنقاذ عادية مثل تلك التي عايشناها تحاول مجهدة انتشال ريان من البئر، فرق تنكب على الشرط الإنساني للطفل- المغربي المغاربي والطفل الإفريقي والطفل العربي والطفل في كل مكان.
مات ريان تاركا هذه العقدة ( عقدة ريان المغربي) تاركا لي أنا كاتب هذه المقالة – الصرخة، ولك أنت قارئها، ولكل راشد في أي موقع، كي ننهض جميعا للإسهام مجتمعين في فك (عقدة ريان المغربي). نتحمل مسؤولياتنا إزاء الطفولة التي تكون لدواعي أو أخرى في أوضاع صعبة.
تلك هي الرسالة التي أودعها إيانا جميعا ريان، من أجل حل العقدة الكبرى التي قال لنا إنها تتجاوزه كثيرا.
أشد على أيدي فرق وأطقم الإنقاذ، ورجال السلطة من كل صنف، وجمعيات المجتمع المدني وعموم المواطنين المتطوعين بمن فيهم اللاتي أطعمن الأطقم والصحفيين، وأدعو لوالدي ريان بالصبر وقوة التحمل ولريان الصغير برحمة الله الواسعة. ريان المغربي الصغير الذي هدم كل الفواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان. بقدر ما كانت تراجيديا ريان رهيبة، ومأساة أسرته وشعبه كبيرة وحزنهم أليما، بقدر ما انكشفت نورانية التضامن الإنساني حيث توقفت القلوب عند ريان وخفقت له بكل أصناف الخفقان بالغ التأثر.
الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 08/02/2022