علِّي صوتك بالتّهريج، مع جَوْقة الهُراء والضّجيج!

أحمد المديني

وجدت ما حدث لي قبل أسبوع خفيفا ظريفا مقارنة بغيره مما يلحق المرء في حياته من عوادي الدهر، لا يَحسِب لها حسابا. كنت في المغرب وعدت منه ببحبوحة مشاعر بما عشت من أوقات فريدة، وحظيت به من حفاوة وكرم بعض الأصدقاء وكبار النفوس والناس البسطاء، ومن شمس بلد وحدها تغنيك عن كثير بسخاء. قضيت وقتا أستعيد الوجوه وأستجمع الأصوات، المليحَ أحضن والفاكهةَ أجني أدسُّها في الشغاف تحسُّبا للأيام العِجاف.
سمعت سيدة بقربي في الطائرة تتحسر مباشرة بعد الركوب أنها توحشت البلاد. لم أعجب، هكذا هم المغاربة حين يهاجرون، بالأجساد غالبا فقط، ويتركون قطعة منهم بين أحضان الأم والإخوة وأولاد الدرب، وثمة قلب في الخفاء ينبض، ولوعة كالطبول تنتفض، وطعم مُر يحسبون فيه العمر دهرا لا يَمُر، وعيون تغبطهم عند الوداع بينما هم أقرب للضياع، لا هنا لا هناك، لا منجاة اليوم وغدا محفوف بالهلاك. مُضغةً صاروا في أفواه العنصرية البيضاء، وحتى في الداخل تصدهم قلوب سوداء، وترتد دونهم عيون مشحونة بالبغضاء. أين المفر؟ لذا قبيل الإقلاع شقشقت السيدة الطيبة بالضحك، ومع شد الحزام هاجمها البكاء.
سمعت أن سلطاتنا المالية تستغرب من ارتفاع التحويلات المالية للمغاربة المقيمين في الخارج وتتساءل لماذا يحدث هذا، وخصصت لجنة لتقصي الأسباب، وسيتقاضى خبراء هذه اللجنة أموالا لجهدهم المضني وسيصلون بالطبع إلى المباشر، من قبيل محدودية العودة إلى أرض الوطن والعوائق في فترة تفشّي الكوفيد، واضطرار مهاجرينا لإرسال مساعداتهم العائلية بديلا، إلخ. لكن، هل سيفكر هؤلاء الخبراء المنعّمون المستقرون في مكاتب وكراس وثيرة وأغلب معاملاتهم وتقويماتهم تتم بأرقام وجداول الإحصاء، خارج المشاعر وأبعد عن العواطف وإحساس الإنسان بالأمان من عدمه؟ أشك في هذا. أشك أن يقدروا بأن خطاب الكراهية الشنعاء الذي يسود حاليا المجتمعات الغربية وفي قلبها فرنسا بحكم نعرات وتحت ضغط مزايدات سياسية إيديولوجية بحسابات انتخابوية يسمِّم النفوس وينخُر العظام، بأن المدعوين (مغاربة العالم) يستحقون فهما أكثر من ضمهم حزمة أرقام ونسب في معدل الناتج الوطني ونسبة النمو ومثلها من رطانات؛ أنهم يا سادة يسمعون بخطاب التهجير والترحيل نظير الروكانكيستا وفعلها بالموريسكيين، لا فرق بين يمين متطرف ومعتدل، أنهم باتوا يفتقدون عن مستقبلهم وأبنائهم أي يقين، وفي مطارات وموانئ بلدهم يلقون أحيانا من يعاملهم ويستقبلهم أشباه مهربين، بينما سيواصل الخبراء حساب التحويلات بصعود ونزول الدرهم قياسا بالأورو والدولار، ومن بعيد وأنا أعرف بعضهم سيقهقه ساخرا لا تولوا لكلام الحالمين اعتبارا، نحن الدولة عميقة وسطحية أيضا غير معنية بنزيف الحنين، وأنين المكلومين، المقيمين منهم والراحلين. نحن نحكم بالأرقام والشعراء والمنجمون بالأوهام، رقم 30 مثلا ك «السيف أصدق إنباء من الكتب/ في حده الحدّ بين الجد واللعب»!
أعود، إذن، وأتذكر ما حدث لي قبل أسبوع، وجدته خفيفا ظريفا مقارنة بسواه. فإني يا سادة يا كرام، بعد العود بيومين اعتراني ذاك الحنين اللعين مسّا من الشيطان يضرب المجانين. اقتنيت كالعادة دليل الأسبوع السينمائي، وكنت انقطعت عن الصالات شهورا تفادياً لمكروه الوباء، فقلت وقد أثارني عنوان فيلم مغربي جديد، هذه مائدة عامرة سأنال فيها مما لم أجد من يمدها في ذلك البلد المضياف، كما كان:» Haut et fort» المترجم عنوانه إلى العربية «علّي صوتك» للمخرج الشاب نبيل عيوش، اشتهر بما قبلها شاهدت منها بين شعبي شعبوي وآخر فضائحي، لم أتردد رغم أني شممت الرائحة من بعيد، لكن طغت فوقها أخرى أزكى للبلاد. أذكر بعد زوال ذلك اليوم وأنا أتعجل أمري وعيني على مشاهدة الشريط في قاعة Gaumont Parnasse نزلت إلى نفق المترو وكبست بطاقتي وسمعت صوته الصاخب قربي فأسرعت الخطى وهوب تحتي بين خمسة عشر إلى عشرين درجة زلقت كمن يلهو غير مصدق أراني وأحس بي أتدحرج فوقها كتلة واحدة إلى أن استويت أرضا عند نهايتها ممددا وحولي هوب من يراني يكتشف هذا البهلوان الذي يقدم نمرة مجانية وتأتي ناقلة لتحمله وهو يتحسس أعضاءه بين مصدّق ومكذّب ويضحك مثلما يلمّ عظامه طريحاً تحت أشعة الفحص، لاحقا.

بعد يومين، متحاملا على رضوضي وأوجاعي أعدت الكرّة، لا بد أن أشاهده Haut et fort دلفت إلى القاعة الصغيرة وحدي وتبعني اثنان لنقضي مائة دقيقة في مشاهدة ما لا أعرف كيف أسميه أو أنعته. كنا ثلاثة فقط صمد اثنان إلى النهاية كنت أحدهما على مضض. يعود عيوش إلى حي سيدي ميمون كما في فيلم سابق( خيل الله) ليصور بحد زعمه بؤس طبقة اجتماعية من القاع تتخبط بين الفقر واستغلال متطرفين للدفع نحو الإرهاب وتصوير عشوائي لكل قبيح ومزر وبائس. هنا في (علِّي صوتك) ينسج على المنوال ذاته، الحي والناس ومباذل العيش من خلال بؤرة ناد للشاب سيَحُلّ بينهم (المهدي المنتظر) ليعلمهم فن الرّاب كي ينفّسوا بأقوالهم عن معاناتهم، ونراه بينهم يراقب ويصدر الفتاوى في سائر شؤون الدنيا والدين لمواجهة الإسلاميين وعينة من السكان الرافضين، وينتهي به الأمر إلى المغادرة مهزوما ليواصل الفتيان احتجاجهم وصوتهم( كذا). صخبٌ وجلبةٌ وقرْع أسماع وصورٌ ملتقطة كيفما اتفق وخلطٌ ركيك لصنع المفارقة وخُطبٌ مصقاع وقاموس مفترض الشعبية بإيحاء الدونية، وتجرّؤ رخيص باسم التحرر لم يسلم منه حتى الآذان. لا قصة متماسكة لتكون لها حبكة وللشريط إيقاع غير جدبة ضاجّة من سائر الكليشيهات، نعم يرفع فيها فتية كالورد حقا صوتهم عاليا مفجرين غيظهم من واقعهم المرير يستغله قادم من عوالم أخرى بدعم عشرات الملايين من المال العام والشعب الذي يزعم الالتزام بقضاياه ونراها تذهب بددا باسم ماذا؟ لن أتحدث عن فن السينما، فهي كل شي إلا هذا. وأصون لساني عن غير هذا أضمّ جسدي المرضوض مغادراً خائباً قاعة مهجورة متعجبا كيف تُنفق الأموال بلا عدّ على بضاعة التهريج ويعلن وزير ثقافة سابق بلا ثقافة، أنه لا يملك درهما لطبع كتاب، حتى إني تمنيت هلاكا في المترو على أن أتعرض وغيري للابتزاز في ذوقي ومبادئي ولن يشفع له هواي بلا شروط لبلادي، ولا التأسّي بأن التهريج عام، ما شاهدت أحد وجوهه الصفيقة، بناسه في زمن الرجال الجوف!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 08/12/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *