عن البحر الأبيض المتوسط، مرتع الأهوال، وبُحيرة العجائب

أحمد المديني

معلوم أن جغرافية المغرب الشمالية توجد على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر المديدُ والجميلُ الذي يبدأ من مضيق جبل طارق وينتهي شرقًا إلى سواحل تركيا وسوريا وفلسطين، وجنوبًا يشاطئ مصرَ وليبيا وتونسَ والجزائر، وينتهي إلينا. بالرغم من هذه الحقيقة الجغرافية الثاقبة، لست موقنًا أننا بلد متوسطي، وعندي أكثر من دليل على هذا إذا قارننا أنفسنا بالشعوب المتوسطية الواقعة شمالَه: اليونان، إيطاليا، مالطا، جنوب فرنسا، وشرقي وجنوب إسبانيا، من حيث ثقافتها ونمط عيشها، والتأثير النافذ لهذا البحر على موقِعها وحياتِها مُجملاً. نحن لسنا مكوِّنًا ولا طرفا فاعلاً في الثقافة المتوسطية، وباستثناءات محدودة، منها الحقبة الأندلسية، لا أجد أننا أسهمنا في ذخيرتها بشيء يُذكر. عندنا مدنٌ على ضفاف المتوسط، لكنها تزورّ عنه وأبنيتُها تدير له الظهر، وسكانُه، هو هنا وهم هناك، لا يحبون العيش بجانبه وقبالته، يعمّرون بعيدًا عنه، في الهضاب والتلال، ويُسدلون الستائر تحجُب النظر إليه وجلوسُهم يعاديه، صحيح كان الغزاة يأتون منه والمخيلة ما زال يسكنها الغزاة، في المحيط الأطلسي أيضا، حيث مدن محاطة بالأسوار، والبحر سابحٌ هناك.
عدا طنجة ـ أتحدث عن المدينة في زمن مضى ـ وهذه استمدت حيويتها من تنوُّعها العِرقي والثقافي والسّيادي ونشاطها الاقتصادي وهي في وضع مدينة دولية، طابعها كوسموبوليتي. إلى حدود نهاية السبعينيات مثلت فعلاً عروس الشمال، ولم يكن المغاربة يتلهفون شأنهم اليوم لعبور المضيق للاصطياف في الساحل الأندلسي الإسباني، كان صيفُ طنجة مهرجانا للحياة والبهجة بالنهار والليل تضيئه أقمار، في أسواقها وفنادقها وشوارعها وأزقتها بالسّوق الداخل تسمع اللغاتِ تتجاوب، والأصواتَ بالغناء تصدح بين رمل الماية وإيقاعات الفلامنكو، وفي مقاهيها تجالس أو تصادف الكتاب والفنانين من أنحاء العالم جاؤوا يبحثون عن أنفسهم وما يُشبع عطشهم تحت أزرقِ سمائها الذي بلا نظير، وفي أبهاء تاريخ حقيقي أو متخيّل يجولون، لا عجب أن يكون ابن بطوطة من أعظم الرحالة انطلق منها ليكتشف بقاع الأرض، فقد كانت ريحُ المتوسط يومئذ مواتية، ترك بحر الظلمات خلفه وعينُه إلى الشرق في رحلة أوصلته إلى الصين ليصنع أسطورته أو تُصنع له، كما فعل محمد شكري الذي لا يفهم كثيرُ مغاربة وعرب أغلبهم فضولي أنه إنسان لا فولكلور، قبل وأهم مما كتب، إذ « الخبز الحافي» وما تبعها، ليست أكثر من تعليقات على هامش حياته التي صنعها بروح ومهجة ومن طينة متوسطية، ما جعل نصه، سيرته، استثنائيةً، مكتوبة وشفوية بلغتها، بنكهته الخاصة، وليست من الأدب المغربي إلا بنَسَب مؤلفها، جامعِ شظاياها، وما انفكّ آخرون يضيفون إليها لتُنسَجَ أسطورة، ومنهم من يتعيّش عليها كما يسترزق ناسٌ من بركة وصندوق الأضرحة والأولياء الصالحين.
اختفى ذلك الزمن، والحنين إليه خمد، فالبحر الأبيض المتوسط أصبح اليوم منظورًا إليه قارب نجاة ومقبرة. مقبرةٌ للمُعوزين والمعدِمين وفاقدي الأمل في العيش، الذين لفظتهم أوطانُهم، وهي ليست لهم وإنما لحفنة، وأجبرتهم على الرحيل، هذه القارةُ السمراءُ التي يحكم أغلب بلدانها طُغم العسكر، أشكالهم هزلية، إذ ترى صدورهم موشّاة بعشرات الأوسمة ويحملون على أكتافهم درجات عسكرية عليا ترقية جراء الحروب الضّروس التي خاضوها ضد شعوبهم وانتصروا بالطبع، الدليل أنهم يزهون بالرؤوس والجثث التي قتلوا بالعشرات، بالمئات، هي الأوسمة المعلقة مشنقةً نياشين. من نعيمهم هم يهرب الآلاف يعبرون سراب الصحراء إلى إفريقيا الشمالية كي يصلوا إلى برّ الأمان، يعلمون علم اليقين أن مصيرهم محسوم سلفًا، فإمّا قاربُ النجاة أو هي المقبرة يتربص بهم الموت في أعماق المتوسط الذي يتغنى به شعراء سُذّج، ويمرح فيه أثرياء «متكئين على فُرُش بطائنُها من استبرق وجنى الجنتين دان»(الرحمن 54). المتوسط مقبرة جماعية لشباب يحرقون ماضيهم كله، ويُطعمون لحمهم للدلافين، بعد أن عافتهم دلافين الأرض في بلدانهم ولم تترك لهم إلا الشوك وخيار الرحيل نحو المجهول وموت محتوم. ولأنهم سودُ البشرة، هكذا خلقهم ربّهم، الذي خلق البِيض والسُّمر والصُّفر والسماواتِ السبع، يتاجر بهم نخّاسو الألفية الثالثة، ويطاردهم إخوتُهم الآدميون، وإلى الفيافي يرمونهم كالجيفة.
لا عجب أن يهيج البحر الأبيض المتوسط، لا بسبب الاحتباس الحراري الذي رفع حرارته إلى 28 درجة، ولا للجثث الطافية فيه وتحويله إلى مكبٍّ للنفايات، ولا لأن شواطئه الجميلة باتت تسبح في مياهها كائنات هجينة تخيف النوارس وتهرب منها أشعة الشمس تفضّل الاحتجاب؛ يهون هذا أمام جريمة تثور لها ثائرةُ سلالة سمك القرش الصغيرة إذ يهجم عليها الإنسان في عقر دارها ويعمل فيها قتلاً وسفكًا فتقرر أن تنتقم وتأخذَ حقَّها بأسنانها، أن تثأر لجدٍّ كبير، وهاكم القصة كما روتها صحيفة لوموند الفرنسية (27/07/2023):
كثرت هجوماتُ أسماك القرش على المراكب المبحرة في مضيق جبل طارق من جهة المتوسط وهذا منذ ثلاث سنوات، وتم التساؤل هل هي تلعب أم أنه سلوكٌ عدواني، وتأكد الخبراء أن جميع الفصيل المهاجم ينتمي إلى عائلة أنثى صدمها مركب عام 2020. سمعت نداءات استغاثة مرات من ربابنة على الساحل الإسباني وشوهدت وهي مخترقَة، وتكررت الاستغاثة مرات يوميا. ومنذ فبراير 2020 سُجلت أزيد من 500 حادثة وتضرر أكثر من 250 مركبًا مما استدعى تكوين مجموعة باحثين. في البداية استنتج بعضهم أنها أسماك تلعب، وصنعت هذه اللعبة لصغارها، ربما بعد الهدوء الذي عاشته طيلة السكون في فترة الكوفيد، فأرادت أن تنشط. بينما قدم باحث آخر فرضيةً يقول فيها إن مصدر هذه الهجومات مرتبط بصدمة أصابت إحدى قرش المضيق، الأنثى غلاديس بلانكا، وهي تحمل نُدبا طويلا غالبًا بسبب ارتطامها بباخرة، ومنذئذ، وهي تهاجم ومنها تعلم الصغار. وأجمع العلماء بعد ذلك أن الفصيل المنتسب إلى عائلة بلانكا هو الذي يشتبك مع البحّارة. فهي، إذن، تثأر لجدّة، وتواصل. يضيف باحثون آخرون أن أسماك القرش تدافع هنا كذلك عن حقها في الحياة وهي في صراع مع البشر الذين يزاحمونها في قوتها. بعد هذا تحولت غلاديس إلى «موبي ديك» الأزمنة الحديثة تهاجم اليخوت، ووصفت ب(الثورية)، وعدّت رمزًا لتمرد الحيوان على الإنسان الذي لا يرحم. وللتذكير فموبي ديك هي رواية للروائي الأمريكي هيرمان ملفيل صدرت عام 1851، وتصور صراعًا تراجيديًا بين إنسان (القبطان أهاب) وحوت سبق أن التهم ساقه، والرواية حكاية أليغورية ترمز للقوة الأمريكية في منتصف القرن 19 وهي تكتشف وتتوسع وتقهر في الطريق، ولا تزال.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 16/08/2023

التعليقات مغلقة.