عَبوةٌ تدحرجت من النِّيل إلى السِّين

أحمد المديني

احترت في تسميتها، عبوة بارود أم كرة ثلج، تلك التي تدحرجت الأسبوع الماضي من ضفاف نهر النيل، إلى ضفاف نهر السين، عابرةً البحر الأبيض المتوسط، ومحلقةً فوق جبال الألب لتتوقف أخيرا في أعظم وأفخم ميدان في باريس، إن لم أقل في أوروبا الغربية كلها Place des Invalides بالدائرة السابعة، ذات المهابة الكبيرة يُفضي إليها المستشفى العسكري التاريخي الحامل للإسم نفسه، ويؤوي في قسمه الجنوبي الكنيسة التي يوجد فيها قبر نابليون.
هي عبوة حامية اسمها الديموقراطية، والأيدي تتقاذفها وبها تحترق على مرِّ الأزمان، وقبل أن يغادر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القاهرة ليحل بباريس يوم الإثنين سابع من الجاري في زيارة رسمية لفرنسا، كان دخان يعلو سماء العاصمتين، مرةً في شكل سحابة ليضبِّب سماء هذه الزيارة إلى حدّ التحريض على تأجيلها، ومرةً أخرى من أثر نار نُصِبت أثافيها وأُعِدَّ لها حطبٌ جَزْلٌكي تتحول محرقة للعلاقات المصرية الفرنسية، وفي قلبها يحاكم النظام المصري بتهمة انتهاك حقوق الإنسان، وقمع الحريات السياسية وانعدام الديموقراطية.
هذه جوقة، وفي «ميدان الأنفاليد»، حيث كنت أوجد في الحادية عشر يوم بدء الزيارة مع مجموعة محددة في موقع حسّاس، انتصبت جوقة أخرى، هيهات أن تغلبها الأولى، وكيف لها أن تتصدر المكان والزمن، كانت وتبقى مدى الدهرهي الأكبر، الأضخم، الأفخم، والأرهب والأعلى صوتا. جوقة الدولة، شبحٌ أمامها المجتمع المدني، تجسدهافرقة الخيالة للحرس الجمهوري بتعداد لا يقل عن مائتي فارس يمتطون خيولا مطهّمة ولا يمكن أن تميّزهم إلا بنزر عن اؤلئك الفرسان الذين كانوا يرافقون لويس الرابع عشر الملقب (ملك الشمس) على أهبة للتحرك في موكب ولا ككل المواكب، في هذه الصبيحة القارس بردها، الجياد تتنفس بأبخرة بيضاء وصهيل خفيف إنما يتموّج في أبهاء الساحة الشاسعة ويمتد أصداء في الأزقة المتفرعة عنها حيث تقوم أهم الوزارات، في مقدمها الوزارة الأولى في قصر ماتنيون،والكي دورسيللخارجية شمالا، وخلفها قصر البوربون مبنى الجمعية الوطنية، لنفهم أننا هنا في قلب الدولة الفرنسية، وهنا بالذات ينتظم حفل أشبه بالمهرجان، لا ينقصه إلا الجمهور، هو الموكب الفخم الذي تخصّصه فرنسا لضيوفها من كبار رؤساء الدول تستفرد فيه الدولة بالميدان وتغلق الشوارع والطرقات المؤدية إليه وهي عشرات، فلا صوت يُسمع، ولا محركات تجأر،حتى إن صحفي لومند الذي كان ينقنق مع نائب من حزب الجمهورية بجواره لم يفلح في إكمال عبارته عن التباس الزيارة بالدّي..تململت الخيل أمامنا وفوقها اهتزت الصّهوات، فوقها الفرسان ذوو الهامات العالية مغطاة بخوذات نحاسية لمّاعة استووا بهمّة على الصهوات، طليعتهم شرعت في النفخ على الأبواق لإيقاع مارش عسكري رصين يناسب الحركة الأولى لحوافر خيلٍ تتأهب، قد وصل من الخلف نفيرٌ مرافق لموكب سيارات خرجت من الباب الرئيس لمبنى الأنفاليد قبل ساعة دخل إليه الرئيس المصري ليزور معالمه، يا للتاريخ كيف يدور، ها هو سليل الفراعنة يقف أمام قبر نابليون الذي قام بحملته الشهيرة على مصر (1798ـ1801) غازياً ومُمَدِّنا بما سماه المصريون أنفسهم نقلة حاسمة إلى التحديث، لا أعرف نظرته إلى القبر لكن لا بد فيها شيئا من مكرالتاريخ!

كان موكبا ولا في الخيال. صمتٌ أطبق على الأرض والسماء وبينهما لم يشقّه إلا سنابك خيل الجوقة الضخمة لخيّالة الحرس الجمهوري تدقّ الإسفلتَ الصّلدَ وقعُها متناغمٌ مع نفير الأبواق، وموكبٌ طويل مقدمتُه جناحا نسر من الدراجات النارية، وصدرُه السيارة الرئاسية محفوفة تتبعها بعشرات الأمتار ساقة سيارات بعيدة عن طليعة الفرسان يعبرون جسر الإسكندرالثالثخفافاً، ثم يخترقون جنوب الشانزليزي، ومنه إلى الفوبور سانت أنوريه،في منتصفه يتوقف الخيالة ليلج ضيف فرنسا قصر الإليزي، بخطوة واثقة فوق حصى الباحة، تحت درج باب القصر يهبّ لاستقباله المضيف ماكرون بترحاب حيِيٍّ، ويلتقي النهران في صورة تذكارية لا أثر فيها لتجاعيد لمز من أجل حقوق الإنسان، ويدخل الرئيسان وينحسر خلفهما الغمز والكلام.
.. أوْ تصعدُ موجةٌ خفيفةٌ منه في الندوة الصحفية المنعقدة بعد ساعة، فلا بد لكل واحد أن يحفظ ماء وجهه بصون الشعارات الكبيرة، للديموقراطية والحريات عند الجمهورية الخامسة، وعدم المسّ بالأديان وكرامة الرّسل في الجانب الآخر، وسواءٌ تعادلت الكفتان أو رجحت واحدة، المهم، فقد قيل ما كان ينبغي أن يقال وتسمعه آذان بالمرصاد، يعلم أصحابُها أن العلاقات بين الدول تحكمها مصالح متبادلة وصفقات مربحة، ظرفية واستراتيجية،عابرة ل» قيم الجمهورية»؛ هذه التي تمر اليوم في فرنسا بمحنة واختبار صعب من وجهين تشريعي وأمني، والرئيس الذي وصل إلى الحكم ببرنامج اجتماعي ليبرالي متفتح باتت النخبة الديموقراطية والضمائر المراقبة تتهمه بنزعة التسلط، إلى حد أن بيير روزفلاون الأستاذ بالكوليج دوفرانس، وأهم مؤلف في النظرية السياسية وشاهد على تطور اليساريعتبر بأنه يريد أن يحكم ب»نزعة سيادية خشنة»، أكثر منه أن فرنسا» تقترب من ديموقراطية تقنوقراطية ذات منزع ضار بالحرية»(ليبراسيون 07/12). لم يرتبك الرئيس السيسي وهو يجيب بثبات على من يسأل بصوت جهير عن مس بلاده بالحقوق والحريات، دُشّنت زيارتُه بإطلاق سراح معتقلين رموز، وإذ يضع الحجر الأساس لبناء دار مصرية في المدينة الجامعية فهو يوقع على الدفتر الذهبي لمصر دولة ثقافية لا أتوقراطية، وبعد أن اطلع على تقارير ما بات يتهدد تلك الحقوق في بلد الضيافة،ّوهو مثير، يأتي لسان الحاشية المصرية:» مفيش حدّ أحسن من حدّ!» ولم تنفجر العبوة، مياه علاقات صافية كالبلور عادت تجري بين السّين والنّيل الخالدين.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 16/12/2020