غياب التعبئة الوطنية: أزمة تهدد مسار الإصلاح في المغرب
علي الغنبوري
في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المغرب، تبدو الحاجة إلى تعبئة وطنية شاملة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، وهذه التعبئة لا تعني فقط إشراك الفاعلين المؤسساتيين، بل تستلزم انخراطا شعبيا حقيقيا لتحويل الإصلاحات إلى مشروع وطني جامع، ومع ذلك أظهرت الحكومة الحالية قصورا واضحا في بناء هذا الزخم الوطني، ما أدى إلى تصاعد القلق الشعبي واستفحال الأزمات في العديد من القطاعات الحيوية، فغياب مقاربة تعتمد على إشراك الجميع يعكس أزمة عميقة في آليات التدبير الحكومي، ويضع مستقبل الإصلاحات الكبرى على المحك.
في سياق وطني يتطلب إدارة جماعية للأوراش الكبرى، اختارت الحكومة نهجا فرديا في اتخاذ القرارات، مبني على مقاربات محاسباتية لا تحمل أي بعد سياسي، مما ساهم في تعميق أزمات مستدامة في قطاعات كالتعليم، الصحة، والعدالة الاجتماعية،غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المواد الأساسية، البطالة…، الشيء الذي جسد افتقار الحكومة لرؤية شمولية قادرة على الموازنة بين أهداف الإصلاح وتطلعات الشارع، فهذه السياسات لم تؤدِ فقط إلى توسيع الفجوة بين المواطنين والمؤسسات، بل دفعت قطاعات واسعة إلى الشعور بالتهميش واللامبالاة تجاه الخطابات الرسمية.
محورية التعبئة الوطنية في إنجاح مسارات الإصلاح تتطلب مواجهة حاسمة مع تحديات مزمنة، أبرزها الفساد والريع، ورغم أن هذه القضايا تشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، فإن الحكومة اختارت نهجا مبهما وغير مفهوم، وبدلا من اتخاذ خطوات ملموسة لمحاربة مظاهر الفساد، أصبحت تهاجم كل الأصوات التي تتعالى بالإشارة إلى استفحال الفساد، مما قد يضرب في العمق ثقة المواطنين في صدقية الإصلاحات، ويرسخ الانطباع بوجود شبكات مصالح محمية تؤثر على صنع القرار.
إضافة إلى ذلك فغياب شراكة حقيقية بين الحكومة والفاعلين النقابيين والمجتمع المدني أضعف فرص تحقيق تعبئة وطنية فاعلة، فالنقابات التي تمثل تقليديا صمام أمان أمام الأزمات الاجتماعية، تعرضت لتهميش متعمد، ما أدى إلى إضعاف الحوار الاجتماعي وتراجع قدرتها على حماية مصالح الشغيلة، وهو ما خلق عزلة متزايدة للحكومة، وأفقدها أداة مهمة لتأمين الدعم الشعبي اللازم لتنفيذ إصلاحات شاملة، وجعلها تواجه أشكال جديدة للرفض صعبت بشكل كبير من تنزيل تصوراتها الإصلاحية بل إن كلفتها الاقتصادية أصبحت جد مرتفعة.
سياسيا يتجلى غياب التعبئة الوطنية أيضا في طريقة تعامل الحكومة مع المعارضة، فبدلا من اعتبارها شريكا استراتيجيا في بناء توافق وطني حول القضايا الكبرى، استمرت الحكومة في نهج التهميش والنظر إلى النقد كعائق بدلا من كونه فرصة لتحسين الأداء، حيث ساهم هذا النهج في إضعاف التماسك السياسي، وزاد من تعقيد مشهد الإصلاحات التي تحتاج إلى انخراط كل القوى الوطنية لضمان نجاحها، فرفض المعارضة المؤسساتية وتهميشها لا يمكن أن ينتج عنه إلا معارضة خارجة عن النسق المؤسساتي، وهو ما سيخلق تحديات ومخاطر غير محسوبة.
غياب التعبئة الوطنية لا يعكس فقط أزمة في الأداء الحكومي، بل يكشف عن قصور في فهم الحكومة لدورها القيادي في مرحلة حساسة من تاريخ المغرب، فنجاح الإصلاحات الكبرى لا يمكن أن يتحقق من خلال قرارات فردية أو سياسات فوقية، بل يتطلب إشراكا حقيقيا وشاملا للمواطنين، وتوحيدا للجهود حول رؤية وطنية جامعة، والفشل في تحقيق هذا الانخراط يجعل الإصلاحات تبدو كأنها مشروع خاص بنخب وفئات بعينها، بعيدا عن هموم وتطلعات المغاربة.
المغرب اليوم بحاجة إلى تحول جذري في منهجية التعاطي مع الشأن السياسي، فلا يمكن أن نستسلم للعبث الذي تقوده بعض النخب التي تجهل بشكل تام تركيبة المجتمع وطبيعة التحديات والانتظارات المجتمعية، وتسير في درب مصالحي ضيق يدفع بشكل حثيث إلى ضرب الاستقرار المجتمعي، فالمشروع الإصلاحي الكبير الذي أطلقه المغرب وحجم الرهانات والتحديات الداخلية والخارجية، التي تنتظره اليوم تقتضي تجاوز هذه اللحظة والذهاب إلى مرحلة سياسية بامتياز تحتضن الكل وتعيد للمصلحة الوطنية اعتبارها وجاذبيتها، فأهم مسلك لإشراك المواطنين لن يمر إلا عبر قناة السياسة، فهي الوحيدة القادرة على خلق التوازن بين مختلف توجهات وحساسيات المجتمع.
غياب التعبئة الوطنية هو عقبة رئيسية أمام تحقيق الإصلاحات المنشودة، والمطلوب اليوم هو إرادة سياسية حقيقية لإعادة بناء الثقة، وإطلاق دينامية وطنية تضع مصلحة المغرب فوق كل اعتبار، فاستمرار الحكومة في نهجها الحالي يهدد بفقدان المكتسبات، ويضع البلاد أمام تحديات مستقبلية قد تكون أكثر تعقيدا،والوقت لم يعد يسمح بمزيد من التردد، فالمرحلة تتطلب قرارات جريئة ومسؤولية جماعية لتحقيق التنمية المنشودة.
الكاتب : علي الغنبوري - بتاريخ : 31/12/2024