فرنسا وحلم اصلاح اوروبا المستحيل

باريس يوسف لهلالي

باريس: يوسف لهلالي

بدأ الخلاف يزداد حدة بين فرنسا وباقي بلدان أوروبا الشرقية، وبرز ذلك مع اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تأسيس إطار سياسي يسمح «للأمم الأوروبية الديموقراطية التي تؤمن بنفس القيم الأساسية، بإيجاد مساحة جديدة للتعاون السياسي وللأمن». وذلك بدل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر مسطرة الانضمام إليه طويلة ومعقدة، وهو الأمر الذي سوف يتطلب من أوكرانيا عقودا من الزمن. هذا الرأي الذي عبر عنه ساكن الإليزيه في أول خروج إعلامي له بعد انتخابه، في خطاب أمام البرلمان الأوروبي بستراسبورغ، تلقاه الأوكرانيون بخيبة أمل كبيرة، وهم الذين «يحاربون من أجل قيم أوروبا الغربية والأطلسية ضد روسيا التي لا تريدهم الابتعاد عن منظومتها».
هذا الموقف الفرنسي الكلاسيكي، يعبر عن التفاوت الكبير في النظرة إلى الاتحاد الأوروبي والصراع مع روسيا بين فرنسا وباقي بلدان أوروبا الشرقية، وهو نفس الموقف الذي عبر عنه الرئيس الراحل جاك شيراك عدة مرات، عندما طلب من هذه البلدان أن «تخرس» عند حديثه عن علاقة أوروبا بالمنظومة الأطلسية، مما يعكس الخلاف في وجهات النظر. هذا التباين في النظرة يمكن تفسيره بتوجه فرنسا العام نحو جنوب أوروبا ومنطقة البحر المتوسط، ورغبتها في نفس الوقت، في الحفاظ على علاقة جوار وتوازن مع روسيا، وهو موقف لا تقتسمه معها بلدان أوروبا الشرقية، التي تعتبر دائما ولاعتبارات تاريخية أن روسيا هي خطر كبير عليها، وأنها بلد لا يفهم إلا موازين القوة، لذا يجب تعزيز الحضور في هذه المنظومة وإضعاف موسكو حتى لا تستمر في تشكيل أي خطر عليها في المستقبل.
الإصلاح الثاني الذي اقترحه الرئيس الفرنسي أمام نواب الاتحاد، هو إصلاح مؤسسات بروكسيل وإدخال تغييرات على المعاهدات الأوروبية لجعل التكتل «أكثر فعالية واستقلالية»، وقال ماكرون من مدينة ستراسبورغ الفرنسية» علينا إصلاح نصوصنا. ومن طرق هذا الإصلاح عقد مؤتمر لمراجعة المعاهدات. هذا أصلا مقترح من البرلمان الأوروبي، وأنا أوافق عليه.
تتولى فرنسا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي حتى نهاية النصف الأول من العام، ويريد إيمانويل ماكرون معالجة هذه المسألة» بالجرأة والحرية اللازمتين «مع قادة الدول الأعضاء السبع والعشرين خلال القمة الأوروبية المقررة في 23 و24 يونيو.
لكن سرعان ما أعربت 13 دولة الاثنين عن معارضتها لمثل هذه التغييرات التي يصعب التوافق حولها لمنح المزيد من الصلاحيات للاتحاد الأوروبي أو تعديل وظائفه. وجاء في بيان نشرته السويد ووقعت عليه أيضا دول بينها بولندا ورومانيا وفنلندا»، لا نؤيد محاولات متسرعة وسابقة لأوانها لإطلاق «مثل هذا المسار.
من جانبها، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لدايين التي شاركت في الاحتفال بيوم أوروبا في ستراسبورغ، «يجب أن نحسن باستمرار سير ديموقراطيتنا».
يبدو أن ألمانيا تساند هذه المقترحات الرئيسية لإصلاح معاهدات الاتحاد، خاصة الموافقة على القرارات بالإجماع، التي أصبحت تعيق مؤسسات الاتحاد واتخاذ القرار أحيانا، وأصبحت بلدانا صغيرة مثل المجر وبولونيا تعطل أحيانا القرارات الأوروبية التي لا تتماشى مع مصالحها.
لهذا فهي تعارض هذا الإصلاح، وانضمت إليها بلدان صغيرة من شمال أوروبا مثل فلندا، مما جعل هذه المبادرة الفرنسية، تواجه ردا سريعا لحوالي نصف الدول الأعضاء.

وبالإضافة إلى إصلاح منظومة الاتحاد الأوروبي وآليات اتخاذ القرار بها، فإن ما أثار النقاش كثيرا أيضا، هو اقتراح فرنسا أن أوروبا تمشي بدائرتين مختلفتين، ومنظمتين. الاتحاد الأوروبي بمؤسساته الكلاسيكية، والذي يبدو أنه جعل إمكانية انضمام أعضاء جدد مسألة من باب المستحيل. اقترحت فرنسا خلق منظمة موازية، وهي ليست فكرة جديدة. تضم البلدان غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وهي منظمة سياسية أوروبية اقترح ماكرون خطوطها العريضة المحتملة في مؤتمر صحافي مشترك في برلين مع أولاف شولتس، يمكن أن توفر» شكلا آخر من أشكال التعاون»، والتي سيمكن لأوكرانيا وكذلك دول أقل تقدما على طريق العضوية مثل البوسنة والهرسك، أن تصبح أعضاء في المنظمة في انتظار استكمال إجراءات العضوية التي تستغرق أمدا طويلا قد يصل إلى» عقود «. كما يمكن لبريطانيا أن تنظم إليها للتنسيق أكثر مع دول الاتحاد الأوروبي بعد انسحابها منه. كما أشار إلى الدول التي تحاول الانضمام للاتحاد» منذ عقود «ولم تلب كافة شروطه، في إشارة واضحة إلى تركيا. المستشار الألماني عبر عن سعادته بهذا المقترح الفرنسي خاصة أن ألمانيا هي الأخرى كانت من أنصار أوروبا من خلال منظمتين متوازيتين، بلدان أكثر اندماجا وأخرى توجد في غرفة انتظار. وهو اقتراح لم ينل رضا العديد من الدول التي تنتظر منذ سنوات مثل البوسنة والهيرسك وتركيا وسوف تضاف إليها أوكرانيا، التي كانت تنتظر سلوكا استثنائيا من أوروبا لدعمها في أجواء الحرب مع روسيا. وهو ما يعني أن الحلم الأوروبي للعديد من هذه الدول بدأ يتبخر ويبتعد.
هذه المقترحات الفرنسية جاءت على إثر نحو 300 إجراء اقترحه» مؤتمر مستقبل أوروبا «، وهي استشارة شعبية نظمت باقتراح من الرئيس الفرنسي وقد سلمت تقريرها النهائي إلى رؤساء المؤسسات الأوروبية الثلاث في مقر البرلمان الأوروبي، الذي أطلق «مؤتمر مستقبل أوروبا» بمدينة ستراسبورغ في 9 مايو 2021 وانتهى بعدها بعام في التاريخ المفعم بالرمزية، ولكن هذه المرة في خضم الحرب في أوكرانيا.
هذه الحرب التي عقدت المشهد بأوروبا، رأينا كيف أن المقترحات الفرنسية لم يكتب لها النجاح، بل إن عددا من الدول ردت بالرفض على المقترح الفرنسي بإصلاح مؤسسات الاتحاد، وهو موقف تم التعبير عنه حتى قبل أن ينهي ماكرون خطابه أمام نواب أوروبا، وهو المقترح الذي عارضه نصف بلدان الاتحاد، بالإضافة إلى مقترح خلق منظمة سياسية أوروبية موازية للاتحاد والذي لم يخلف صدى هو الآخر بل خلق الإحباط لدى بلدان مثل أوكرانيا في حين اعتبرت تركيا وبريطانيا نفسهما غير معنيتين بهذا الاقتراح الفرنسي.
ورغم أن بلدان الاتحاد عبرت عن وحدة في مواجهة أزمات الحرب، إلا أنه بدأت تبرز انقسامات حولها بين فرنسا وألمانيا من جهة اللتين تؤمنان معا، بأن إمكانية الحوار ما زالت ممكنة مع روسيا رغم الحرب والعقوبات، ومن جهة أخرى الولايات المتحدة وبريطانيا وبلدان أوروبا الشرقية التي لا ترى جدوى في الحوار معها وأن رهان القوة وإضعاف روسيا بشكل مستمر هو الحل لهذه الأزمة.
الخلافات الأوروبية-الأوروبية التي أخفتها الحرب سوف لن تتأخر في البروز خاصة الموقف تجاه روسيا واستحالة إصلاح مؤسسات الاتحاد.

الكاتب : باريس يوسف لهلالي - بتاريخ : 19/05/2022

التعليقات مغلقة.