قبل الكلام وبعد القتل العمد باسم حقوق الإنسان!

أحمد المديني

…وفي جميع الأحوال أنا مضطرٌ للتعامل مع العالم الخارجي بالكلمات. يعمُر جوفي بها طويلا وتنزل أسابيعَ وشهورا إلى قيعان الصمت تتغذى بلحمي، وتشرب إن عطشت من دمي، وتصرخ غاضبة في مظاهرات عارمة في شراييني وأوردتي. لذا لا يفهم من يرى وجهي منتفخاً، وشفتيّ متورمتين، وأعضائي مشدودةً، وملامحي، خصوصا، منقبضةً، تُقرأ سريعاً من الخارج نفوراً من الخلق الذائع، والكلام الشائع، وكثير مما يحدث ويقال جلّه مائع.الصمت نعمة والكلام نقمة. لا أعني صمت الجبن والهروب، الذين يغلقون أفواههم لأن فيها ماء أو إن هم نبَسوا ببنت شفة، حقٍّ وباطل، تُتحسس الأعناق تطير الأرزاق. أعرف بلادا يحكمها قانون عرفي لفظه «ممنوع الكلام» كما كان يكتب على الحيطان في بلدان عربية «ممنوع البول». لم يعنني يوما هؤلاء فهم أموات وأشكال أجداث، وما أنا حانوتي يحضِّر التوابيت، يعدّ مجالس العزاء ويتلو المراثي وفي المساء يهبّ إلى الولائم ليقتات ببقول الموتى وأرواحهم لما ترقَ بعد السماوات. هكذا الحال في بلاد الكلامُ فيه بضاعة رخيصة تطرزها لغة جوفاء. الخطاب شكل زِواق والمعنى كتلةُ هُراء، تقرَّرُ له المناهجُ وتستنبتُ المفاهيمُ وترسمُ الأنساق، ولا همَّ أن تُستخرجَ النتائج ويسمّى الاسمُ والشيءُ كما ينبغي أن يُسمَى، أهمُّ من المعنى عبادةُ الهيكل et tourner autour du pot،هي بلاغة الانتهازيين الجدد ينبغي أن يُنعتوا.
نعم، الصمت نعمة، ولكنه ليس البتةَ فضيلة. وقد آليت على نفسي أن أنزوي في محرابه وأتفيّأ ظلاله أكابد وحدي، وأنفخ في جمر وجدي، لتلتهب الروح شعاعا إلى ربها خيرٌ لي من أي وكد ومجد. النهار أبسطُه مرآةً، فأرى فيها وجوه من فاتوا، نتصافح ونتضاحك ونشتعل بالمشاريع والأماني كأن أمس الرجال الشُّمِّ عاد حضر، والزمن الوغد بنا ما غدر. وفجأةً، تزحف سحابة فتغطّي المرآة تسقط أرضا وتطير شظايا. ثم بعدها ماذا أرى؟ ياه، من هؤلاء يا تُرى؟ سقط ُمتاع الأيام الخوالي، همُ، يجمعون الفتات ويمضغون البقايا. ونحن، من؟ ربما بشرٌ ضحايا، فصيلة من الدهماء، نساق في فلاة العمر كما تساق الشاة، سريعا يحضر الحانوتي ليلُمّ الأشلاء ويقيم عليها ولائم من ألذّ أصناف الرثاء، ويضيف بهارا حادا يدفع الدمع إلى العيون ويهيّج في النفوس البكاء،هكذا لعبتُهم استحلوها وبها يطول لهم البقاء. لِم لا، ونحن نبلع ألسنتنا وهم يغصبون أشرف الكلام، يتداولوننا مع الأيام، من نحن سوى حفنة أغبياء. كبرتَ صغرتَ واجدٌ من يقرّعك، ستُهان، أستاذا جامعياً أو ماسحَ أحذية، سِيّان، بجملة واحدة يُمسحُ تاريخُك في تقرير عابر مدفوع الأجر يُتلى مع كأس مشحّر ويُلاك مع لُبان. ويم الحق، نحن شعب يحتاج إلى إعادة تربية إذا كان يقبل الهوان، فما بالك أن تحوّله ذاتُ ضغينة إلى سهم في بورصة خساراتها لتلقنه كيف يكون»مجتمع المعرفة» وتسدّ به فجوة شعور بالنقصان؛ وليملأ به كلّ صاحب دكان ـ كثيرة الدكاكين هذه الأيام ـ رفوفا فرغت وسجلات بهتت وجمهورا أخلى القاعة من شِدّة البهتان. ولله نوَيتَ الصمت، جرّ لساني لعنه لله، الشيطان!
ثمة حلقةٌ مفقودةٌ ومطلوبةٌ بين الصمت والكلام لا ينشغل بالعثور عليها العنيد، لا يصيخ السمع ما دام يعتبر رأيَه هو السديد. اسم الحلقة الإقناع، وهذه مدرسة عقلية وبلاغية حِجاجية مركّبة وتحتاج إلى أفهام لا واحد في اللوغوس، ولكن لا بد لها من مادة وموضوع وإلا فهي جدلٌ عقيمٌ عن الفراغ، حذار، فالفراغ قادرٌ أن يصبح جدا إذا عُقلن وأمسكت به فِطنة سيوران. ولا بد للإقناع من مِراس طويل، وهذا من ميزات التدريس تتعلمه في الفصل والمدرّج وحين تنجز البحث الأكاديمي وهو أكثر جدية من تعلّمه في مضمار السياسة والصحافة، وهما فنّان. والفن لعب، لذلك ترى السياسي والدبلوماسي والصحفي يمكن أن يقول يكتب الشيء وضده، وعوض الإقناع العقلاني كما يتطلبه اللوغوس بمنهجية وإحكام، يراوغ ويقلب الحقائق كالحواة، ولهم في ذلك طرائق وفنون، وما هو بمأخذ عليهم، فلكل حرفة عُدّةٌ وصنعةٌ وأداء.
أبهرني بصورة هذه الحلقة المفقودة ومنطقها ما تابعته ويتواصل في وسائل الإعلام الغربي والأنكلو سكسوني في نطاق الحرب المستعِرّة في أوكرانيا بعد الهجوم الروسي منذ نهاية فبراير الماضي. يجتمع الجنرالات المتقاعدون الخبراء والمحللون ورؤساء التحرير زد مستشارين ومراسلين من كل الآفاق. هؤلاء جميعا يضعون في أدمغتهم وأمامهم حقيقةً واحدةً موحدةً مثل الغيب والمطلق، وهذا هو الميتوس، ويناقشونها بينهم، لا يستحضرون النقيض وهو ضروري للديالكتيك، غير معنيين إطلاقا بالرأي الآخر، ويحشدون الحجج والبراهين بأخبار ومعلومات وصور حقيقية وزائفة، منقولة وملفقة ومهوّلة للإقناع بحقيقة مقررة سلفا ضد العدو المتهم بالدكتاتورية وفرض الرأي الواحد ومنع الإعلام الحر وما شاكل. نعم، نعلم البروباغاندا من أسلحة الحروب واستخدمها الأمريكيون لهم فيها مدارس وخبراء وميزانيات. لكننا، نحن الذين تعلمنا وخلفنا المنطقَ الديكارتي والعقلانية الحديثة وتخرجنا من أرقى الجامعات الغربية فصارت معارفها تيجانا على رؤوسنا وبطاقة تعريف دامغة، نُمنى بالخيبة إن لم نُصب بالذهول أحيانا مما نسمع ونقرأ نعلم جيدا ليس ثمة حقيقة واحدة ولكن لا أن يُلوى عنقُها فتصير شائهةً ومضحكة والجالسون في الاستديوهات كومبارس وبهلوانات في سيرك.
لنخفف الوطء ونسميه مسرحا. مسرح يسمّونه» قِيمُنا»(Nos valeurs). من حق أيّ أمة أن تنفرد بمعتقداتها وتتميز بها، والبشرية يمكن أن تعتنق قيما جماعية، فرنسا بالذات تفخر بأن ثورتها أقرت قيما عالمية المساواة والعدالة وحقوق الإنسان أمها. بيد أن الممثلين فوق ركح هذا المسرح يريدون احتكار هذه القيم لهم(لنتذكر بألم ما قاله رئيس فرنسي عن بلد إفريقي بأنه لا يستحق الديموقراطية، وكيف كان الاستعمار يعرض السود في أقفاص فرجة للبيض). وأنا مضطر للختام أغصّ بالحزن والقرف حد غثيان بطل سارتر روكنتان(1938) لأتوقف عند قيمة ومفهوم(جريمة ضد الإنسانية) الجاهزة ضد كل من يتحرش بمسرح» قيمنا»، لا تطبق على دولة غاصبة اسمها إسرائيل تقتل الفلسطينيين وتهدم بيوتهم فوق رؤوسهم وشرّدتهم شتاتا في العالم، آخر منجزاتها الإنسانية قتل صحفية فلسطينية(شيرين أبو عاقلة)في قلب ميدان حقوق الإنسان. ويحنا، يا ويلنا، أين نولّي بعد اليوم وجوهنا بعد هذا القتل والخسران؟!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 18/05/2022

التعليقات مغلقة.