كيف أقول أحبك، ألاَ اهدِني السبيل إليك؟

أحمد المديني

 

1
سألتني كيف أعيش هنا؟ تقصد هناك في الشمال، أنا الذي ولدت في الجنوب. كيف هذا البلد؟ حيث صرت أعيش وأحيا، فهل كنتُ من قبل ميتا أو أتظاهر بالحياة؟! ناسه؟ سعادُتهم؟ شقاؤُهم؟ السعادة والشقاء رديفان، هما توأمان إلا عند عديمي الإحساس والبصيرة. حدست أنك تسألين أيضا عن نسائه، وهذا حق وطبيعي ولا مِرية فيه، علمت من نزقي شبقي خضتُ في لُججه زمنا حد الغرق. وتسألين مع أي معدن من الرجال اشتدّ عودي وصار عصِيّاً على الكسر وهامتي عن الهوان؟ عندي بعضُ جواب. عند بوحٌ أغنى من الاستعارات، لا تسعُه الكلمات، ولا أقدِر عليه، أخاف من الكلمات، لأنها تطويني في عمر الفوات، ولا تجمع من حطام نفسي وشظايا العمر غير الفُتات. ولأنها تدوِّن التاريخ وتحضُنه، وأنا يا امرأة حضورٌ لا يُطال وغياب استحال، من يحضُنني في تيهي، حِلِّي وترحالي، في غربة من لا ديار له بعد حتى ولو شدَّ وهماً إليها الرِّحال. اعذريني. سأتوقف هنا، وأعدك بوضوح أكبر في قادم الأعمار، وتعلمين أنه مُحال، فما تبقى ليس سوى ظلالٍ نمشي خلفها تقودنا حتما إلى الزوال. أريد أن أقول أخيرا اشتقت، وأخاف كيف أقول أحبك، وأنت بلا اسم؛ألا اهدني السبيل إليك؟
2
مع الحياة والموت، في الشوق والولع، وبين الشهيق والزفير توقَد شرارة، يقدَحُها شاعر، شاعرٌ بحق، يزرع حدائقَ ويشِعل حرائق، ويمضي لا يلتفت لِعَوْعَوة جِراءٍ ونقيق ضفادع، تُهديه الوردة عطرها، والشمس ضوءَها، والقمرُ هالة على الهامة، ولا يكفيه هذا المجد، هو يتبعها وهي تلوب في المتاه، حتى لو شهقت الروح بالآه، لا تُرى بالعين، لن يجذبها موّال يا ليل يا عين، ولا المتيّم يُنشدها يا أنت قد طال البَين، أم الأفضل أن أبدأ الرحلة الأخيرة ليُشفى الغليل؟ نحن لا نفعل في هذا الوجود المسطّح والمعقد سوى الرحيل، ومن شدة العجلة، والنزق، وهوس البحث عن حاجات صغيرة ونافلة، ولتكن ضرورية ومهمة، عدا تلك التي للغرائز عند سائر الحيوانات، يقال تلبّي الطموح، لا أفهم كيف يتسابقون على هُراء يسمّونه الطموح، وينسون الرحلة، قديما قال شراح الأوديسة إن تراجيديا وهاجس عوليس لم يكن الوصول إلى إيثاقا ولكن الطريق وفي الأفق شوق لا ينطفئ إلى بنيلوب، ولذلك تخلىّ عن غواية كاليبسو، عن الدوران في فلك الشهوة والرغبات، والتعلق بما يُعطي حقا معنى للوجود وقيمة للكائن.
3
لذا، في كثير من بلدان عالم الجنوب، أي التي على خط الفقر وتحته، وعلى خط النمو ودونه، وتحت السوط والرّكل والنهب والسلب، تُحكم الشعوب، يقال تُساس، لا بشرا يحتاج إلى كرامة وقيمة، ولكن، أولا، أحيانا أخيرا، كتلا من الناس ينبغي العمل بما يتيسر لتزويدهم بما يسُدُّ الرّمق، ويستُر العورة، ويقي من الجهل، ويعالج المريض وهو في طريق الموت حتى يموت.
تولد أجيالٌ وتتوالى تقضي أعمارها تفكر في حاجات تجاوزتها شعوب أخرى بقرن على الأقل، فإن تطلعت إلى أبعد من أرنبة الأنف سُمِّيَ ذلك بطراً ورفاهية، فما حاجة المتضوِّر جوعا والمُدقع فكرا والهالك صحةً إلى الكرامة والديموقراطية والرأي الحر ومثله من(رطانات). رئيسان فرنسيان ليبراليان مؤمنان حتى النخاع بحقوق الإنسان ومنتخبان من الشعب بديموقراطية بصفاء البلور لم يرِفَّ لهما جفن توجَّها من منبر قصر رئاسي إفريقي إلى الأفارقة بنبرة لا تخلو من عتاب يغمزان من تطلعهم إلى الحكم الديموقراطي، وما فيكم يكفيكم! لا أعرف كيف يفكر الذين هم في موقع تمثيل الشعب في مجلسيه، وما مقدار اقتناعهم بأن وجودهم في هاتين المؤسستين إلى جانب إصدار التشريعات والمراقبة إلخ، الوعي بالمسؤولية، بأنهم يمثلون الشعب، أنهم يستحقونه، وهم هنا للدفاع عن قيم ومبادئ عليا لا للبروز والمبارزة والوجاهة، وهذا شأن سياسي وأخلاقي خطير، أتمنى أنهم يعقلونه. فنحن شعب، نعم نريد الخبز والمدرسة والمستشفى ولمّ جميع النفايات، ونريد الحق والكرامة، أيضا.
4
كلامٌ كثير في هذا السياق يمكن قولُه، عالقٌ في الحناجر شوكة، عن مجتمعنا السياسي، مكوّن وممثل أساسا بالأحزاب، ومن هيئات مدنية وأطراف تجعل من السياسة بمعنى النظر في شؤون وقضايا وتدبير حياة المواطنين مجتمعة وخطط مستقبل حكم البلاد والإنسان فيها، ولا تسل عن الحقوق التي أصبحت لها جمعيات بقدر الشيب الذي اشتعل في رأسي، شاغلا لها. كلامٌ دقيقٌ ومسهبٌ أولى بالسياسيين المحترفين ـ أصبحت أتفادى صفة المناضل انطفأت جذوتها وصارت عرض حال ـ تُدبّره، ببُعد نظر وللتحقق من هوية، أي معرفة من هي وماذا تريد وإلى أين تذهب وهي تقترح وتعمل أبعد من البرنامج الانتخابي والمصالح الآنية، وهي ضرورية بدون شك، لكن ما ينبغي أن تستعبدها وتقيّدها، علما بأنها تلعب دائما بحساب الربح والخسارة وهي تغامر ولا تقامر، لأن المقامرين يقلبون الطاولة بصفاقة على الديموقراطيين. وبما أنني لست سياسيا محترفا، وهو ما لا يناسب الكاتب رأسمالِه وإيديولوجيتُه هي الحرية، فإني لو ضمّني مجلس إلى هذه السلالة، وفي ظل مجمل أوضاع نحن فيها، ربما نزعت الشوكة من حلقي وسألتهم: هل نجتمع هنا كأننا بمثابة (مناضلي) إيديولوجيات فاقدة الصلاحية (périmé)؛ أم لأننا لا نريد أن نفقد أوهامنا؟ وعبثا سأتخيل قولي: وماذا لو أن عالمنا انهار؟ السؤال الذي يتحاشاه سكان الإسكيمو فيوثرون البقاء في خيامهم وارتداء جلود الفقمة.
5
بدأت بسؤال الحب هو ذروة الوجود، وإن كان الموت هو المنتهى في رحلة الوجود. ولأنني أحببته أكثر من أي ممثل آخر، لفحولته وثقافته وقوة أدائه وانخراطه في الحياة فنانا بلا حدود، فقد أحزنني رحيله(17/06/2022). مَثّلَ نعي جان لوي ترتينيان صدمة لأوساط الفن السابع والمسرح في فرنسا والعالم الفني أجمع حدثا وفقداً جللا ومنتظراً، ولم أقرأ في حياتي نعيا بسيطا وعميقا مثل الذي دونته القناة الفرنسية الأولى:»Jean-Louis Trintignant est mort paisiblement de vieillesse»( مات جان لوي ترينتيان بسلام من الشيخوخة». أي في عمر الواحد والتسعين، وإثر معاناة مع السرطان الذي وصف معاناته معه قائلا» أتركه يفعل[فعله]»، وبعد حياة حافلة بمجد سينمائي طويل بدأ بالشراكة مع المخرج روجي فاديم وبريجيت باردو في الفيلم العلامة:»Dieu créa la femme»(1956) وتألّق بالأشهَر:» رجل وامرأة» مع أنوك إيمي(1966) الذي حاز أرقى الجوائز وكرّس صاحبه علَماً لا يضاهَى حتى الموت الذي ضربه بعنف في مقتل ابنته ماري على يد عشيقها(2007) فصرعه إلا قليلا، اعتزل خارج باريس وبقي يشارك لماما في حفلات مسارح يلقي فيها قصائد يحبها، فقد كان ذا صوت مليء بالرهبة والجلال، بعض ما غناه لشاعره المحبوب الكندي غاستون ميرون، يقول إنه يسكن القصيدة وينطقها فتراها أنت شاخصة وتكتب أمامك للمرة الأولى؛ هكذا تلاه:» لم يعد لي وجه للحب/ لم يعد لي وجه لأيّ شيء/ إني أنتظر من غد، أنتظرك. أنتظر نهاية هذا العالم/ أنتظرك وقد نفضت عني الهالة الزائفة لحياتي».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 29/06/2022

التعليقات مغلقة.