لا تُدنِّسوا رايةَ البلاد؛ لن يمُرّ الأوغاد

أحمد المديني
شاهدة: هذه الكتابة لروح من جثمانُه معلق منذ 1965 بين أرض وسماء، لا يبغي إلا قبرا لتهنأ روحه في السماء، وسيظل عارا أن لا يلبَّى النداء. أبناء المهدي لن يسكتوا خاصة والقتلة عادوا يطعنون بالقذارة جثةً عزلاء. كأني أسمع دخنتوس الدارمية تعود وترثيه بالأبلغ:
«ألا يا لها الويلاتُ ويلة من هوى/ بضرب بني عبس لقيطاً وقد قضى
لقد عفّروا وجها عليه مهابةٌ / وما تحفل الصّمّ الجنادلُ مَن ثوى»
1
بيني وهذا الزمن الأجوف أزمنةٌ عصيبةٌ وعصِيَّةٌ على التذكر والنسيان، في آن. بيننا من الغرقى والقتلة والقتلى ودم الأبرياء وديان. بيننا إقدامُ رجالٍ وهِمَمُ جبال وآلافُ الشجعان. بيننا متاريسُ وقصفٌ للكبار والصغار في شوارع الدار البيضاء، وقلبٌ ينبض في مرس السلطان. بيننا أوقات الاستعمار والاستقلال وسبعينيات بقبضات عقدنا العزم فيها ألا نهان.
2
كيف لي لأسترجع ما فات، كأنَ لا شيء كان. كأنْ أقول مثلَ التنابل هذا ما أعطى الله، وخّا الوقت خايبة كلّ شي مزيان. أن أسمُل العينين، وأجدَع الأنف فلا أشمّ العفن، وأغمض الجفن عن ما يعوم سطحا وعمقا من هوان. لِم لا أفترض السّباتَ صحواً، والأفول فجراً، أتقنفذ تحت شوكي وأنجو من لدغة الثعبان؟ وباختصار، أدخل سوق رأسك يا فلان وأنجُ من الطوفان؟
3
بيني وبين الستينيات الآن تجاعيد عُمر وفلاة. حياةٌ عشتها حممَ بركان، وحرائقَ للمغرب متصلات. في ذلك اليوم الجهنمي حصدونا ورودا وداسونا أجسادا على رفات. الذي يكتب اللحظة اسمعوا وعوا دمُه تعتّق في الكلمات. نحن الثلث الناجي من الذبح ورشاش قصف تغريدِ العصافير في الدار البيضاء، لكنا هرّبنا شعلة الأولمب، وما زلنا على العهد..أباة.
4
هي الأجساد تشيخ، والأيام تبلَى، لكن صدورنا باقية محفلا لعرمرم الذكريات، والمُهج كالشهب البارقة، والخطب الصاعقة تهز الأرض تحت أقدام الطغاة، أعتى من صواريخ ماحقة، ذاك أن صدور الستينيين لم تكن محشوةً بالقش، مدنسةً بالنبش، حفارةَ قبور كي تهدي مزيدَ موتى لسيّدها ليهشّ لها ويبشّ، ديدنُها أن تباع وتُشرى، ذباب موائد عفنة من عطن يطردُها وينشّ.
5
خرجتُ أولا من رحم الأمومة، ثم ولدت في مارس 1965، وعندي في جسدي علامةٌ دامغةٌ تسجيل عقد الازدياد. كلما حلّيوم السفّاح عاد التاريخ وماد، أحضن من حنين مدينتي الدار البيضاء، أعظم من إرم ذات العماد، أقول لها وأنا أمسح من عينيها دمع الثكالى، ومن تحت المقابر أسمع بعدُ صهيل الجياد، رغم ما نهبوا أبادوا فتكوا بنا، تبقين أولَ الأرض وآخرَ البلاد.
6
ثم عدت خرجت من رحم ظهر المهراز في فاس. هناك في العام نفسِه وضعنا للثورة حجر الأساس. لم تخفنا الكلمة لأنّا ببساطة لم نقبل المذلة أو نُداس. نطفةٌ فعلقةٌ فمُضغةٌ إلى أن كبُرنا سادةً عصاة بشدة وبأس. كان للموت وجه وللرّعب وجوه، والاتحاد الوطني، الحزب والطلاب منتهى الرِّغاب، يشنُّون غاراتِهم يطردون ينفون يسجنون ولا نَهاب، لم يكن لأحلامنا مَقاس.
7
شيء لم أفهمه في وقته. لم أستفق بعد من دهشته، كصعقة الحب إذا جاءت، أن تولد يوم يولد شهيد، ما بأيدينا وإلا لأرّخنا به وجعلناه في جدول العام ذكرى وطنية، أجل يوم الشهيد عيد.29 أكتوبر من العام ذاتِه ولجنا كلية الآداب بفاس كما شاء لنا محمد الفاسي وصحبه زرافة، ما علِمنا أن نعالنا تجرّ من خلفها عاصفة، والسماء يومها ستمطر دما لنصبح غضبةً جارفة.
8
عرفته، رأيته بالصدفة في فاس، وأنا تلميذ بثانوية مولاي ادريس حيث وجدتني بصدفة إلهية أحضر في (دار دبيبغ) جلسة له مع عمال، وقتها كان قد نجا من محاولة اغتيال على قنطرة وادي الشراط بعد الرباط، وسمعت كلاما غريبا خارج المحفوظات وخرير سواقي جنان السبيل، عن الاستغلال وحقوق الطبقة العاملة، وصوتُه حادّ والأعناقُ مشرئبّةٌ يحقِنها الغضب.
9
كان هذا سنة 1963 عجبا حلّ بفاس أيضا نزار قباني شاعر الرسم بالكلمات، والفاسيات في مدرج ليسي مولاي ادريس جلسن يشربن الغزل من فمه زلالاً مُنتشيات، وهن يرشُشنه بورد الزفرات، وأنا الفتى الغضّ في ركنٍ يشرب ظمإي من بياضهن، ومن فم الشاعر أقطف أبياتا لغد، سرعان ما نسيتها. متلفّعاً بالبرد تحت باب بوجلود ترِنّ في سمعي خُطبة الرجل العنيد.
10
عجباً، أول درس في كلية الآداب افتتحه المهدي بن بركة. أيّها الجبناء الأنذال، هذا الأستاذ علّم الحسن الثاني، رافق محمد الخامس حتى استرجع التّاج، وعبَر الأعوام، وطافت روحُه في السماوات والأرض، ورغم رصاصة السّفاح، ترك جسده مُسجى مفترشاً دمه، وسبح في السين والمتوسط عبَر البوغاز وحلّق فوق زلاغ لينقش في ظهر المهراز افتتاح درسَ الحرية.
11
نحن الستينيين اعلموا أبناء المهدي بن بركة، وعلى رقابنا مهما طال الأمد دمُ الشهيد، سنموت ولن يُنسى الوعد، ولا يخيفنا منكم التهديد والوعيد. لحمُنا مرٌّ عرّكته الأصفاد وقضبانُ الحديد، كتبوا، نشروا، شبكات الجواسيس والمخبرين أن الشهيد جاسوس، أفٍّ،وسوى هذا ممن دمُهم قيحٌ وصديد. نعم، عريسُ الشهداء كان جاسوسا على ذلِّكم كي لا يبقى المغرب أرضَ عبيد.
12
المغاربة الذين لا يطلبون صكوك الغفران ليسوا وثنيين، لذلك لا يقدسون الأسماء، لكنهم لا يمارون في الرموز، ولا يقامرون بقداسة الوطن في المزاد. الوطن ليس غنيمة، ودم الشهداء ليس ماءً أو من السيل الغُثاء، ليُدَنسّه ويُنجِّسّه قُرادٌ يتعيش من عطايا الأسياد على حساب أحرار ماتوا وشادوا وسادوا ليصبح لهذا البلد اسمٌ وأمجاد. لا تحرقوا الراية، لن يمرّ الأوغاد!
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 05/01/2022