لعبة الضمائر بين النّحو والذات ونحن المغيَّبين

أحمد المديني

يعرف المتمرّسون بالكتابة الروائية جيدا أن الرواية فنُّ صنعة ومضمارُ لعب، ولكل صنعة قواعدُها وأدواتُها ومادتُها وطريقتُها هي ما يأتي بها شكلُها وبها تُروى قصتُها وتُرسَمُ عوالمُها. وإذا لم تُحترم أو تُقترح ضمن الإطار العام لفنية السرد هذه المقتضيات تتهافت كلاما مهدوراً ولغوا بلا طائل لأن الفن كما يصنعُه المتمرّسون عناصرُ وله عُدّةٌ كتابيةٌ وتشكيليةٌ محددةٌ تصلُح له وحده، وهذا ما لا يدركه من يخبطون خبط عشواء يزعمون الخلط مباشرة وهم لم يتملكوا الأصول، فما نعلمه في الطبيعة أن لا شجرة تورق أغصانا وتينع، بلا جذور. جميع الدارسين والنقاد الجادين والكتاب النابهين تعلموا وكبُروا في مدرسة البويطيقا لأرسطو، والخطط التي جاءت بعدها ما هي إلا تطريزٌ على ثوبها واجتهادٌ في مقاييسها ونظامها وكيفما كان التغيير الذي يُدرج فيه جنس الرواية عبر تاريخه الطويل جذرُه كان ويبقى هو (التراجيديا) التي وضع قواعدها صاحب كتاب (البويطيقا)(حوالي 355 ق م) ضمن تصنيفه للأنواع إلى نموذجين ومرتبتين لن نخوض في تفاصيلها هنا غرضنا الوصول إلى الضمائر.
في التراجيديا اليونانية التي بنى عليها أرسطو قواعد البويطيقا يحضر صوت جماعي أولًا وممثلٌ واحد يؤدي دور الجميع (البطل والمرسَل والإلهي) والمونولوغ مهيمنٌ عند إيسخيلوس. مع سوفوكليس، يحضر الحوار وظيفةً وتتعدد الشخصيات، كما في (أوديب ملكا)، ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا التحول تمّ في قرن عظيم كان العالم الإغريقي قد بلغ فيه ذروته، عصر ذهبي شهد ثلاث ولادات: الديموقراطية والفلسفة والتراجيديا، وعرف الانتقال التدريجي الخطير من الميتوس(الإلهي، والتصور المقدس للإنسان والكون حيث تسود العقيدة) المتضمن للتيوقراطية نظام حكم، إلى اللوغوس (الذي ينهض على ممارسة العقل) ويسقط فكرة الخضوع الأعمى لكائن أسمى، كي يتم اختيار الحاكم بناء على مقياس عقلي. أضف أن العبور من الميتوس إلى اللوغوس يُعد ّثورة حقيقية في الفكر البشري نظرا لنقلنا من زمن الآلهة إلى زمن الإنسان، وهو زمن تاريخي والقصة فيه كتابة لا شفوية، لنصل إلى فارق آخر أخير ذي دلالة جوهرية حيث يتبوّأ الفرد في اللوغوس الحضور في المقدمة.
هذه كلُّها وغيرُها يتعذر وصفها هنا مقدمات للموقع النحوي والصرفي والتشخيصي الفاعل للضمائر في الرواية والكتابة السردية الحوارية عموما، إذ هي قرينةٌ ومتصلةٌ بتكوين الكائن الفردي وانبثاقه من صيرورة فكر الأنوار الذي واجه هيمنة الإقطاع وسلطة الكنيسة ومعتقداتها وفتح مفكروه وفلاسفته عهدا جديدا لسيادة العقل ونشر الحريات والحقوق مِهاداً لتصحيح بل وتغيير الأوضاع الاجتماعية وما تلاها من ثورات اقتصادية وصناعية قلبت المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر خاصة رأسا على عقب وظهرت الحركة الرومانسية بروحها ومفهومها الثوري الذي أطلق العنان للتعبير عن المشاعر وكسر قيود الجمود والكلاسيكية الجافة. في هذه الأرضية تبلور وضع جديد ل» الأنا» وتطور لم يعد (غنائيا lyrique) وحسب، بل ارتبط بشروط واقع جديد مستجِدٍّ أصبحت الرواية هي الجنس الأدبي المعبِّرُ عنه بامتياز، هنا حيث البطولة للفرد بالدرجة الأولى ومعضلاته ضمن تغيرات العلاقات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية ومعها بالطبع انهيارُ قيم وولادة أخرى مكانها، من هنا جاء التعريف الجوهر للبطل الإشكالي عند جورج لوكاتش بوصفه الباحث عن قيم مثالية في عالم منهار. ذلك أن الرواية فن لوغوسي ولا يمكن أن تكون إلا إشكالية أو لا تكون وهذا ما لا تستوعب مفهومه وتاريخه كثير من الأقلام فتكتب الإنشاء والخواطر بدل السرد الفني المنظم الذي تُعّدُّ الضمائرُ ومواقعُها مركزيةً فيه وبواسطتها تتحدد الرؤى، وهو ما رسمه جيرار جنيت في دراساته (الناراتولوجية) للموضوع ويعيها الكتاب المتمرسون من عرب ومن عجم.
لقد كان الطريق طويلا وشاقّاَ للإبداع الروائي العربي كي يصل إلى استعمال الضمائر (المتكلم، والمخاطب، والغائب) والمتكلم مهمازُها كثيرا ما يشغل الإثنين الآخرين ويموِّهُهُما وخارج السيرة الذاتية المبنية على أنا صريحة يكون آخر، وتمثيل الأنا فيه ذو صيغة نحوية فقط. الشعراء العرب الذين جاهروا بأناهم عارية وصارخة في زمن الثقافة العربية الكلاسيكية نُظر إليهم كمرضى وشواذ لإنشادهم بالصوت الشخصي الخارق وجهرِهم بالرأي المستقل عن القول المقدس (الميتوس، بمكوناته وسلطاته) وما زال المتنبي يُدهِش إلى اليوم من يسمع قوله:» أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم» ونسخه محمد درويش الذي يحفظ شعر أبي الطيب غيبا وهو يتساءل ملتاعا:» من أنا لأقول أنا؟!» رغم أن القصيدة العربية الحديثة خرجت بهذا الصوت ومثّلَ مكونا أساسا لها إلى جانب العنصرين العروضي والخطابي، ولم يكن هذا عسيراً فهي خرجت من رحم التراث نوعا ما زيادة على محدوديتها، خلافاً للنثر الذي وجد صعوبات جمّة ليندرج في الخطاطة البويطيقية الأجناسية لأرسطو، التراجيديا على رأسها، والتجنيس روائيا أبعد من الحكائية الخبَرية والشفوية للتراث (السردي) يجب أن يأتي في سياق انقلاب جذري للواقع بتكويناته المركبة، وهو ما كان وما يزال صعب المنال، في القلب منه فلسفة وإيديولوجيا حضور الضمائر وماهيتها وكيفية استخدامها وقانونها statut وهذا قبل أن ننتقل إلى صنعة الفن بحق وحقيق ليست موضع مزاح وطيش نزق.
ربّ قارئ يتساءل، ما علاقة هذا العرض النقدي بالانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة التي شغلت الدنيا هذا الشهر ومنها استوحيت مقالك هذا؟ أجيبه: إن مقابل ضمير في الفرنسية هوconscience أي وعي الذات، والوعي حضور الفكر بحرية وامتلاك سيادة الرأي والنقد. لذلك كتبت تدوينة في صفحة الفيس أقول:» كلما حلّ يوم انتخاب رئيس الجمهورية في فرنسا أشعر أنه يوم عيد، فأحلق أنا ذقني وأرتدي ثيابي بقيافة وأقضي النهار منشرحاً لا يعنيني من يفوز بقدر ما أنا سعيد بأن الإنسان هنا مواطن حقيقي سيد نفسه ومسؤول عن قراره. هذه شريعة الديموقراطية وحقوق الإنسان كما يعيشها الغرب ونقضي نحن أعمارا نحلم بها وأقصينا من نعمها تسرق أناي وأناك وغدا هلاك». طرق رأسي سائل: وماذا عنا نحن المغيّبين؟ أجبته بهدوء: الديموقراطية لا تمنح، وهي مسألة ضمائر، وإنها تُستَحقّ، هيت لنا!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 27/04/2022