لكل مدينة حكاية، ولصيف الدار البيضاء حكايات

 

1
لا أذكر أين قرأت أو سمعت القول التالي:» كلُّ واحدٍ منا عنده حكايةٌ دفينة لا يجرؤ أن يحكيَها». أعوذ بالله من قولة أنا، كنت في سالف الدهر من هذه الزُّمرة، أسمع أرى أدخل في المعترك أحيانا وتتراكم عندي الأشياء، أخبّئها تحت المِخدّة، أدسُّها في جوارير رأسي، منها ما أخزنه في خوابي الذاكرة، وبعضُها أبعثره في المجالس بين العامة والخاصة، ولم أنتبه وقتها أن اللسان مثقوب، ثمّةَ من يلتقط ما يسقط منه، يسيل، وكنّا يومئذ نعيش في ليل طويل.
2
في زمن آخر ضاق الصدرُ بما حمل، والأرضُ بما رحُبت، فوقع الـ (big bang) الأدبي في تاريخ القصة المغربية عندما تفجّر «العنف في الدماغ» (1971) يتذكره العارفون والمصابون. لم يكن إلا أول السيل وتركته ينهمر، فنحن الذين عشنا في تلك الأزمنة كنا سيولا جارفةً وحممَ براكين، يحصدوننا بالليل والنهار ونعود ننبتُ شوكا تحت أقدامهم وأجساداً تتناسخ تحت سياطهم، نجوع ويبلعون، نتلظّى ويُعربدون، وعشنا سادةَ الدار البيضاء نكبُر بنَخوة وجنون.
3
لا تأتي الكتابة من لا شيء، لا من كلمات ملفّقة، منمّقة، مستعارة من فقاعاتٍ على سطح بِرك آسنة، هي الحجرُ اليرسو في عمق الوادي ويُصاد صقيلا بعين صافية ويُترك ليتخمّر لينضجَ كأجود الغلال في سلال الذكريات، عِش أولا واعرِف كيف تعيش، وانخل كلماتك نَخْلَ الحَبّ من الزؤان، ولا تحفل بالكثير من الهشيم، لا تسبِق خطوك خشية أن يفوتك الأوان، إلا ابتُليت واصطليت وتفقهتَ وتجشمتَ الصبرَ وامتحنكَ الدهر، وشربتَ أولا من معين الحياة.
4
تعالوا معي وعودوا جميعا إلى معين الحياة، تلك الطفولة، كيفما كانت، تأتّت، فهناك صغتَ نفسك، وجُبِلتُ من أول صلصال، حتى ولو لم تنل، مثل أغلبنا، إلا الفتات، تأتي عليّ أوقاتٌ ألعق أصابع دهشتِها طراوتِها وبساطتِها، وحتى إذقاعِها ومنها استرجع وجهي صفحة بيضاء، الحقيقة لا أذكره فلم أكن أنظر إلى المرآة، ليس مثل هؤلاء النزقين اليوم يفطرون وينامون على سحناتهم وهم بعد يلثغون، يستعجلون القمة في أعلاها يعانقون الخواء، كنا أبناء التراب.
5
نسيت الحكاية، فهكذا لُعبتُها، تُسلِس لي القياد فما ألبث أتركها، هذا عندي بعضُ متعتها، لم نعش ونعرف أيّ شيء متصلٍ ما عدا أُسرٍ تحكمنا وسلاسلَ تقيّدنا، ومن زَغَبَه لله وفكّر أن يختلف تبّاً له خرج عن طاعة السلسلة، لن يتّبع قصته إلا من شَذَّ مثله، يلهثون نحو النهاية في حكاية غامضة البداية، من يتذكرها، يتتبع مراحلها منا، نحن جيلُ الصدفة والاحتراق، لذا لا تنطفئ في أفراننا الرّغاب والاشتياق، ونواصل غزلَ خيوط الحكاية في انتظار خروج الدخان!
6
في زمن مضى، لم يكن في الدار البيضاء أغنياء ولا فقراء. كانت مدينة أولا سكانُها هم سادتُها متعايشون وبسطاء. مدينةٌ بحدودٍ وقوانينَ وأعرافٍ وأخلاقٍ ولغةٍ وثقافةٍ بنسَق واتّساق. الحداثة المغربية التي يتشدق بها المتفيهقون ولدت في الدار البيضاء، ولم نكن بحاجة إلى شقشقة لسان ورطانات مستوردة كي نسميها لأنّا ترعرعنا فيها وبين باب الكبير[ساحة محمد الخامس] وساحة مرس السلطان أنشأناها قبا أن يعوم الطوفان؛ بحرُها كان لنا نحن الحيتان!
7
إن كنت بيضاوياً لا تحتاج إلى أحلام، البحر أفقٌ وامتداد، هو الوجهة يوم الأحد، حيث يتجلى الجسد الفرد، وللغمْر فريقَا الرجاء والوداد. لم نكن أغنياء ولا فقراء، أطفالا ويافعين كراماً بريالات وإباء، البحر بِحار لنا منه نصيبٌ موزع كالأرزاق، بحر مريزيقة للشعب، مسبحُه صهريجٌ ضخم لا عجب يتكرر هذا في الرباط فالشعب هو الأصل يبقى ويتجدد، نسبح ونغرق سيان، لا أحد يهتم، الأجدر بالشعب أن يغرق، لهم بِحار ولنا قِفار، وكنا نزاحمُهم نكاية ونمرح.
8
ربما يتذكر أخي الأصغر كيف ترادفنا كثيرا على دراجة صدئة، من شارع فيكتور هوغو إلى شاطئ عين الدياب، بجسدين ضئيلين نطوي الكلمترات، وحين نصل نراه شاسعاً نتملّكه وأذرعُنا أجنحةٌ تسبح فيه، ونظن أننا نملك الدنيا، نتقلّب في الرمل ونصنع منه قصورا، ها ها، ونداري جوعنا بزهيد الزاد، وإذا دنا شفقُ المغيب نمتطي الدراجة زيط زاط ونعود سعداء، أسعد من ساكنة فيللات حي أنفا المخفيين فيها كاللصوص، بينما ننام قريري العين.
9
أعواما طويلة ظل شاطئَا عين الدياب وببسي كولا في الصيف مهرجانا مفتوحاً، للسباحة والاستجمام نهارا، وللسّهر والمباهج غناءً وركزاً حتى مطلع الفجر، بالمجان. فيهما وامتداداً إلى صخرة سيدي عبد الرحمن تُنصب خيامُ بيضاوة، مجتمعٌ آخر يتململ تحت الشمس وغزَلٌ يُطرز بين نظرات الفتيان وتنهّد الفتيات، وفي منتصف الليل يصل المارشال قيبو في العزف مع بوشعيب زنيكة إلى بوابة القمر، فيما بوشعيب البيضاوي يصدح، وتشرب كأسَها البحار.
10
أعواما طوالا عشنا حيارى ماذا نفعل بحبنا وعطشنا باكتظاظ مطامحنا تتراكم فوقنا جبالا من الآلام ونصعدها تلال أحلامٍ لله وحده يعلم كم شربنا من مُدامٍ وغمسنا في نزف دمنا هو الإدام، صيف الدار البيضاء عراء، لا نهارُه يُشبعنا وليلا نجنِّن «شيخات بن عبد السلام» من العُواء. نعلِّم النشء ونكتب القصيدةَ والقصةَ والمنشورَ أمامنا وعدُ ابن بركة منارٌ إن اشتد الديجور، وشعرٌ خببٌ لأحمد الجوماري وهو يثور، والمجاطي سيد ليل الدار البيضاء لنا قيثارةٌ ودثار.
11
قليلا ما كنا أحرارا. كثيرا ما قيّدونا، عصبوا العيون، ورمونا في غيابة الجُبّ، فنشمّ في جلودنا حريق الفصل قذِراً ينز، ونأكل البقَّ من سغب، وفي الخارج نسمع قهقهاتهم تئِزّ يقذفوننا بقاموس البغاء حيث تربوا. رأيت من يحبو ولم أكِبُ، مُنعت من التحليق أصيافا لما آويت مصطفى القرشاوي المطارد إسرافاً، يلهثون خلف الظلال أشباحا وأسيافا. هل تعلمون لماذا؟ يقولون من أجل استتباب الأمن العام الذي يُخل به العوام، ونسُوا أننا رجال الدار البيضاء!
12
يُفحمني المجاطي فلا أطلب المزيد، هُراءٌ بعده تستزيد، ماذا لو تعلمنا الصمت عند باب البيان: «وها أقبل الصيف يطرق بالشمس أبوابك المقفلة/ وها أقبل الصيف/ فانتعشت في الكهوف الجنائز/ والتحمت بالجنائز أنسجة الراية المشعلة(…) وأنت على الضفة الألفِ مُبحرةٌ في السُّعال/ وفي عثرات الرجال(…) فيا أختَ غرناطةَ الجوع/ شُقِّي قميصي/ امسحيه على جبل الرّيف/ واستخلصي من بقاياي شيئا/ سوى الخمرِ والشهوة النّابحة» صدقتَ ولله، إنك الشاعر.

التعليقات مغلقة.