لماذا صوّتنا ضد مشروع القانون 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي؟
بقلم النائب البرلماني الدكتور عمر أعنان
ونحن نناقش مشروع القانون رقم 59.24 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي، فإننا، داخل الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية، لا نناقش مجرد نص تشريعي تقني أو ترتيبات تنظيمية معزولة عن سياقها، بل نخوض نقاشاً سياسياً وفكرياً عميقاً حول مستقبل الجامعة العمومية المغربية، وحول موقعها في المشروع الوطني للتنمية والديمقراطية، وحول قدرتنا الفعلية على الانتقال من منطق التدبير الظرفي للأزمات إلى منطق الإصلاح البنيوي العميق والمستدام.
إن هذا النقاش يندرج في سياق وطني مؤطر بمرجعيات دستورية واستراتيجية واضحة، في مقدمتها دستور 2011 الذي جعل الحق في التعليم والمعرفة من الحقوق الأساسية، والرؤية الاستراتيجية 2015–2030، ثم القانون الإطار 51.17 الذي اعتُبر تعاقداً وطنياً ملزماً لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. وهي مرجعيات تقوم، بوضوح لا لبس فيه، على مبادئ المجانية، وتكافؤ الفرص، والاستقلالية الأكاديمية، والعدالة المجالية، وربط الجامعة بحاجيات التنمية الوطنية والجهوية.
غير أن القراءة المتأنية لمشروع القانون تكشف، للأسف، عن هوة مقلقة بين هذه المرجعيات التقدمية ومضمون النص المعروض، إذ يغلب عليه الطابع التنظيمي والهندسي، مقابل غياب رؤية سياسية واضحة ومتكاملة لإصلاح التعليم العالي. وهو ما يثير التخوف من أن يتحول هذا المشروع إلى مجرد إعادة ترتيب إداري وتقني، بدل أن يشكل إصلاحاً حقيقياً يعيد الاعتبار للجامعة العمومية باعتبارها رافعة مركزية للديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية.
مجانية التعليم العالي: خط أحمر يتم تجاوزه
منذ مواده الأولى، يفتقد المشروع إلى نفسٍ مبدئي واضح يؤسَّس صراحة على المبادئ الناظمة للتعليم العالي، وفي مقدمتها غياب أي تنصيص صريح على مجانية التعليم العالي العمومي. وهو غياب لا يمكن التعامل معه كأمر ثانوي، بل يمثل ثغرة قانونية خطيرة تهدد مستقبل الجامعة العمومية، وتفتح الباب أمام فرض رسوم تحت مسميات مختلفة، كما وقع فعلياً في سلكي الماستر والدكتوراه.
إن هذا التوجه يتعارض بشكل صارخ مع الفصل 31 من الدستور، ومع روح ومقتضيات القانون الإطار 51.17، ويعكس نزوعاً مقلقاً نحو تسليع المعرفة وتحويل التعليم العالي من حق اجتماعي إلى خدمة مؤدى عنها. وبالنسبة للاتحاد الاشتراكي، فإن تحصين مجانية التعليم العالي العمومي ليس مجرد مطلب فئوي، بل خيار مجتمعي يعكس الانحياز إلى الفئات المتوسطة والهشة، وإلى مبدأ تكافؤ الفرص، وإلى دولة الرعاية الاجتماعية.
تشتت منظومة التعليم العالي وتكريس اللامساواة
بدل معالجة الاختلالات البنيوية التي راكمتها السياسات العمومية المتعاقبة، يكرّس المشروع استمرار التشتت داخل منظومة التعليم العالي، عبر الإبقاء على تعدد الأنماط والمؤسسات: جامعية وغير جامعية، عمومية وخاصة، وطنية وأجنبية، حضورية ورقمية، دون أي رؤية وطنية موحدة أو خريطة بيداغوجية مندمجة.
وقد أدى هذا الوضع إلى فوارق بنيوية في جودة التكوين، وقيمة الشهادات، وفرص الولوج، وإلى تعميق منطق جامعات للنخبة وأخرى للكتلة، بما يضرب في العمق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، ويُضعف الدور المجتمعي للجامعة العمومية.
العدالة المجالية الغائبة
يتجلى هذا الخلل بوضوح في غياب سياسة ترابية جامعية واضحة، حيث لا يزال العرض الجامعي العمومي يعاني من اختلالات مجالية صارخة، تحرم آلاف الطلبة، خاصة في الجهات والأقاليم المهمشة، من حقهم في ولوج تعليم عالٍ ذي جودة، بسبب البعد الجغرافي وضعف الخدمات الاجتماعية.
وتتحول الجغرافيا، في هذا السياق، إلى آلية إقصاء غير معلنة، في تناقض تام مع مبادئ العدالة المجالية التي طالما نادى بها الاتحاد الاشتراكي باعتبارها مدخلاً أساسياً لتحقيق الإنصاف الاجتماعي والتنمية المتوازنة. ورغم ذلك، لا يقدم المشروع أي تصور استراتيجي حقيقي لمعالجة هذه الاختلالات، ويكتفي بإحداث مؤسسات وأقطاب دون معالجة جوهر الخصاص البنيوي.
حكامة فوقية تُقوّض الديمقراطية الجامعية
وعلى مستوى الحكامة، يطرح المشروع اختيارات مقلقة، إذ يُضعف التمثيلية الديمقراطية داخل المجالس التقريرية من خلال تقليص الهيئات المنتخبة وإغفال مبدأ المناصفة، مقابل إحداث ما يُسمّى بـمجالس الأمناء، وهي هياكل فوقية ذات صلاحيات واسعة وتركيبة يغلب عليها الطابع التعييني.
إن هذا التوجه يتناقض مع مبدأ الاستقلالية الجامعية، ويؤدي إلى ازدواجية في مراكز القرار، ويحوّل الجامعة من فضاء ديمقراطي قائم على المشاركة والمساءلة، إلى مؤسسة خاضعة لمنطق الوصاية، وهو ما نعتبره تراجعاً خطيراً عن المكتسبات الديمقراطية داخل الحقل الجامعي.
الموارد البشرية: إقصاء صامت للفاعل الأساسي
ويزداد هذا القلق حين نلاحظ أن المشروع لا يعالج بشكل جدي وضعية الموارد البشرية، وعلى رأسها الأستاذ الباحث، الذي يشكل العمود الفقري للجامعة العمومية، كما يتجاهل الأطر الإدارية والتقنية التي تضمن استمرارية المرفق الجامعي.
ومن هذا المنطلق، نؤكد على ضرورة تأطير الوضعية القانونية للموارد البشرية عبر تحديد واضح لهياكلها، وتوحيد نظامها الأساسي، وإشراك النقابات في صياغته، انسجاماً مع المقاربة التشاركية التي يشكل الحوار الاجتماعي أحد مرتكزاتها الأساسية.
بيداغوجيا مرتبكة وبحث علمي مهمّش
لا يقدم المشروع، على المستوى البيداغوجي، تصوراً متكاملاً لإصلاح نظام الإجازة والماستر والدكتوراه، ولا حلولاً جذرية للهدر الجامعي وضعف المردودية، خاصة في التكوينات ذات الاستقطاب المفتوح. كما تظل الهندسة اللغوية غامضة، ويُطرح التعليم عن بعد والتكوين بالتناوب دون معايير جودة واضحة، مما يفتح المجال أمام تحويلها إلى صيغ منخفضة الكلفة بدل أدوات داعمة لجودة التكوين.
أما البحث العلمي والابتكار، فيبقيهما المشروع في الهامش، دون آليات دقيقة للتقييم والتثمين، ودون ربط فعلي بالأولويات الوطنية والجهوية. ويزداد هذا الوضع خطورة مع الغياب شبه التام لأي رؤية واضحة بخصوص الذكاء الاصطناعي والتحولات التكنولوجية الكبرى، في وقت يتسارع فيه التحول نحو اقتصاد المعرفة.
موقفنا: تصويت مسؤول دفاعاً عن الجامعة العمومية
انطلاقاً من كل ما سبق، نرى أن مشروع القانون رقم 59.24، في صيغته الحالية، لا يستجيب لانتظارات الإصلاح الحقيقي، بل يهدد بتكريس التفاوتات، وإضعاف الجامعة العمومية، وتقليص استقلاليتها، مع إبقاء البحث العلمي خارج الأولويات الوطنية.
ورغم ذلك، انخرط الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية في مناقشة هذا المشروع بروح بناءة ومسؤولة، وتقدم بما يقارب ثلاثين تعديلاً جوهرياً، غير أن أغلبها لم يُؤخذ به، خاصة تلك المتعلقة بتحصين مجانية التعليم العالي العمومي، وتعزيز الاستقلالية الجامعية، وترسيخ الحكامة الديمقراطية، وضمان الجودة والإنصاف.
وانطلاقاً من مرجعيتنا الاتحادية، ومن مسؤوليتنا السياسية والتشريعية، جاء تصويتنا ضد هذا المشروع تعبيراً عن موقف مبدئي واضح، دفاعاً عن الجامعة العمومية، وعن الحق في تعليم عالٍ ديمقراطي، منصف، ومتاح لجميع بنات وأبناء الشعب المغربي.
الكاتب : بقلم النائب البرلماني الدكتور عمر أعنان - بتاريخ : 24/12/2025


