لِنفرَحْ بما في اليد، قد يأتي الصيف بلبنٍ مَخيض

  أحمد المديني

 

1
من حسناتِ الصيف ومميّزاته أنه يحمِل الناسَ عامة إلى أجواء يتبدل فيها معيشُهم عما قبله، بسبب تغيّر الفصل، وهو طبيعي، ولأنه في أغلب البلدان الزراعية، ومنها المغرب، يأتي بمثابة إعلان عن نهاية عام كامل ـ لا هو ميلادي ولا هجري ـ توالت فيه الأيامُ والشهورُ مواسمَ زرعٍ وكدحٍ وأمطارٍ أو انتظارَ غيثٍ إذا شحّتِ السماء، ثم مراقبةَ سنابلَ تنمو وعشبٍ يَخضَرّ وثمارٍ تنضَج مع ربيع يحمل البُشرى بالذهاب نحو فصلِ خصبٍ وحصادٍ مأمولين. فإذا جادت الأرضُ ووهبت خيراتِها تنشرح النفوسُ أصبح بإمكانها أن تحتفل، قد حلّ موسمُ الأعراس، والانتقال إلى الرجولة بالختان، وهو طقس ديني، أيضا، وهاجت الحواسّ بأنواع وأشكالٍ من الأفراح كأنها طقوسُ قربانٍ للأرض المعطاء هي أنثى حُرِثت وحبَلت وأنجبت.
2
للأطفال والتلاميذ الصيف عيدٌ حقيقي، أو هكذا كان، لأني أتحدث عما عرفت في الماضي ممّا انتهى إلى معنى، أما الحاضر فهو صيرورة قيدَ التكون، وحين نتابعه ونقوِّمه تلزمنا الحيطة والنسبية. لم أفهم أبدا لِمَ عنَى الصيفُ عند تلاميذ الماضي احتفالاً عظيمًا بالحرية، باسترجاعها، فتكون شهورُ التحصيل المدرسي بين جدرانٍ وأسوارٍ وأوقاتٍ مضبوطة بمثابة سجن، والمدرسُ شبيه بسجّان، فيا لها من مفارقة، ونهايةُ العام الدراسي كانتهاء مدةِ محكومية السجين. لم تكن تلك الأفواجُ إذ يُفتح أمامها بابُ المعتقل تجد في معظمها سوى الفراغ تطحنه والفيء تبحث عنه اتّقاء شمسٍ لاهبة وشواطئَ مكتظةٍ تحشُر فيها تُداري الخصاصَ بأيِّ شيءٍ وهي ترى أمامها من يملكون كلّ شيء، وسيّان أن تفهم أو تغتم، آخرون هم من يغنم.
3
حين كبُرنا، في السِّن لا القَدر، بدأنا نفهم أن الحرية التي توهمنا كذبةٌ بلقاء، أحببناها وقتها لنُداري عجزنا عن الحصول على الحقيقي، ما تُمسك به في اليد، المادّي المتحققِ من المكاسب والحقوق لا الهتاف بالشعار في الهواء؛ ولكي نكبُر قررنا أن نصنع مصائرنا بما أُوتينا من وعيٍ وإرادةٍ وعزمٍ فأصبحت أيامُنا كلُّها صيفًا حارقًا أضحت معه فصولُ البلاد واحدًا صاعقًا. من لم تُعشّش في رؤوسهم العناكبُ سيتذكرون كيف، كأنه اتّفاق، توافقت سنواتُ الجفاف مع أخرى اتّسمت بالقحط والمَحق، هكذا تحالفت إرادتان عاتيتان على الناس نسينا معها تسمياتِ الطبيعةِ للفصول، حلّ بدلها اسمٌ واحدٌ مديدٌ ظنناه لن يرحل، وفيما كنّا نكافحُ ـ فعلٌ زال من القاموس، وصار معرّةً ومثيرًا للهُزء عند بعضٍ كثير ـ وآخرون عدّوه الزمنَ الأصلح الأبقى.
4
يُتيح الصيفُ الوقتَ الفائض، العطلة المؤداة لقسم من السكان يتزايد، فيسمح بالاسترخاء والتحرر من التزامات وعادات أرى أنه يفتح قوسين كبيرين لحالة استثنائية اسمُها النّسيان. بالحَرِي التّناسي وهو فعلٌ مقصودٌ يسمح بتجميد الذاكرة ومخادعة الذات وملاعبة الوقت بضعة أيامٍ أو أسابيعَ قبل عودة الهموم إلى مجراها الطبيعي ليستأنف المعتادَ كأنه حقٌّ طبيعيّ وقدرٌ لا فكاك منه، لمن شاء أن يراجع اللسانَ المستعملَ والإفراط َفي لغة الاتكال لينتبه إلى مقدار الثبات وحجم اليأس وشلّ قدرة الإنسان على الفعل والتدخل لإحداث التغيير في مجاله، وسيرعبُه أكثر أن يلاحظ بأن إرادة قوة الثبات في الذهنيات والسلوك وكلِّ ما يتصل بالقدرة الخلاقة تواجَه بنقائضَ ومثبطات، اقلُّها انسَوْا ما كان، اؤلئك كانوا مثاليين ونحن أبناءُ اليوم!
5
أحب بدوري أن أنصرف إلى العطلة، وأسكُن بين ذينك القوسين أزيد عليهما سقفًا يحجُب عنّي شمسًا حارقةً فلا أذوب من حرٍّ لهوب، خاصة في زمن كذوب. بدوري أحب أن « أفعل مثل سكان روما إذا حللت بروما» وأنجو، ولو مؤقتًا ومخاتلةً، من الوسواس الخنّاس، ف «لا يخرج من الجماعة إلا الشيطان»ـ بهذا المعنى كلُّ معترضٍ، معارضٍ، مخالفٍ لرأي، مختلفٍ في فكر ونهج، شيطانٌ، من هنا اشتُقّ فعل شيطن ـ؛ كلمني صوتٌ متحشرجٌ من تاريخه البعيد: اترك الجمل بما حمل. تصاممتُ، أولاً، فلما كرّر ابتسمتُ ساخرًا فما رآني؛ ولما ألحّ قهقهتُ ملءَ شدقيّ تجاوزت مقامه وقدري، يا شيخي، هي حُجُبٌ كثيفةٌ بيننا، أنت اجتزتَ المَطْهَر، ولعلك في الفردوس، ونحن لا نزال في المكان الماـ بين، بين الفردوس والجحيم، وربما قاب قوسين مما لا يُحتمل، لذا أفضل منه: لا حِمْلَ بعد فالجمل يا مولاي برَك!
6
لا شيء غير هذا يُضيرني بين رأسي وقومي، بعد أن استفتيت ماضيَّ واستشرفت غدي، وهو قصير، لذا قررت أن لا أنغّص على أحد ولا ألوم، كفى، هي جبالٌ العيوب، وما أنا كذابٌ ولا مذنبٌ لأتوب. حاشا، أن أتدخل في إرادة الخالق، هو أعلم بالوفيِّ الباقي على صراطٍ مستقيمٍ والمارق.لكن لا بد أن أعترف بأني لا أستطيع أن أشبّه، أنزّه وجهَ وصورةَ من وما أبغي عن المشبَّه والمشبّه به، وهذا بعض المأساة، أن لا ندرك ما نبغي ونُمعن في طلب ما تضعُف عنه الهمم ويُنعَت بالمحال، ونجعل بديلاً له مشاهد مكرورة، ومواعظ غثّة، وفُرجة سمجة، من أقاصي البلاد إلى أقصى جراحات الفؤاد، هي أقربُ إلى الملهاة وكم فيها من مهازل وافتئات. قد أينع الحزن في قلبي عشبًا أصفر، كثُر النّعي والولادة قليل، وصرت مثل ذلك الضلِّيل»؛ فليخرج الماء الدفين إلىّ وليكن الدليل»؛ لا قِبَل لقلمي أن يُمسي لسانَ رثاءٍ بين قبر وقبر، وإذ أستودع الله وحضراتكم أبيضَ الثغر، فلنفرح بما في اليد، فقد يأتي هذا الصيفُ بلبنٍ مخيض.

الكاتب :   أحمد المديني - بتاريخ : 02/08/2023