مؤتمر الاتحاد الاشتراكي:من أجل تجديد السياسة واستعادة الثقة

ذ. كمال الهشومي *

ينعقد المؤتمر الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في لحظة دقيقة من التاريخ السياسي المغربي، حيث تتقاطع مظاهر التململ الاجتماعي مع أزمة الثقة في المؤسسات، ويزداد الشعور العام بالإحباط من ضعف مردودية السياسات العمومية وغياب أثرها في الحياة اليومية للمواطن. في خضم هذا السياق المأزوم، ينهض الحزب العريق، سليل الحركة الوطنية، ليعيد التذكير برسالته الأصلية: أن السياسة ليست إدارةً للأزمة فحسب، بل مشروع وطني لبناء التوازن والعدالة والمواطنة. إنّ المؤتمر لا يُعقد لتجديد الهياكل فحسب، بل لتجديد المعنى؛ معنى الانتماء، ومعنى الفعل الحزبي، ومعنى الأمل في وطنٍ ما زال يملك إمكانيات النهوض إذا ما أُحسِن توجيه طاقاته وتفعيل مؤسساته.
لقد أثبتت التجربة المغربية خلال العقد الأخير أن التحولات الدستورية والقانونية، مهما بلغت من النضج، لا تُترجم تلقائياً إلى ممارسة سياسية فعالة ما لم تُرافقها ثقافة مؤسساتية ديمقراطية، تضع المواطن في صلب العملية السياسية لا على هامشها. فالتحدي اليوم ليس في النصوص، بل في الإرادة السياسية لتفعيلها، وفي القدرة على إعادة وصل المواطن بالمؤسسات الوسيطة، وعلى رأسها الأحزاب السياسية التي فقدت، في نظر كثيرين، قدرتها على التأطير والتعبئة والاقتراح. الاتحاد الاشتراكي، وهو يستحضر إرثه الإصلاحي العميق منذ حكومة التناوب إلى اليوم، يدرك أنّ استعادة الثقة لا تتحقق بالشعارات بل بالفعل، وبالتحول من معارضةٍ احتجاجية إلى معارضةٍ بنّاءة تُقدّم البدائل الواقعية وتدافع عنها برصانة ومسؤولية.
السياسة، في تصور هذا الحزب الوطني، ليست مجرد منافسة انتخابية، بل عقد اجتماعي متجدد بين الدولة والمجتمع. وهي، لذلك، تتطلب جرأة في النقد وجرأة في البناء معاً. فحين يطالب المواطن بالعدالة الاجتماعية، لا يكفي الردّ بخطط ظرفية أو وعود مرحلية، بل ينبغي إرساء آليات مؤسساتية تُلزم الدولة والمجتمع معاً بمؤشراتٍ دقيقة للمحاسبة والنتائج. إنّ مفهوم الدولة الاجتماعية الذي تبنّاه الاتحاد الاشتراكي منذ نشأته لا يُختزل في الخطاب الإنساني أو في الهاجس الإحساني، بل هو تصور استراتيجي يجعل العدالة التوزيعية والإنصاف الترابي والولوج المتكافئ إلى الفرص مكوّناً جوهرياً في بنية الدولة الحديثة.
في المقابل، تظل سيادة القانون أساس أي تحول ديمقراطي حقيقي. فالقانون لا يكون عادلاً إلا حين يسري على الجميع دون تمييز، وحين تكون المؤسسات الرقابية والقضائية قادرة على حماية المال العام، ومساءلة كل من يستعمل السلطة لمراكمة النفوذ أو الثروة. ذلك أنّ الفساد لا يقتل التنمية فقط، بل ينسف المعنى الأخلاقي للدولة ويعمّق الهوة بين المواطن ومؤسسات الحكم. لذلك فإنّ معركة الاتحاد الاشتراكي ليست فقط ضد الفساد في أشكاله التقليدية، بل ضدّ تزاوج المال بالسياسة، وضدّ ثقافة الإفلات من العقاب التي تفرغ الإصلاح من محتواه.
وإذا كان المواطن اليوم يطالب بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ تحقيقها يمر عبر إعادة هندسة العلاقة بين المركز والجهات. وهو ما لمسته قيادة الحزب وأكدته مرة أخرى من خلال اللقاءات المكوكية عبر ربوع الوطن في لقاءات تواصلية وتنظيمية للحزب ولروافده فاقت السبعين لقاء ومؤتمراً، ويؤكّد كما سبق ذلك أن الجهوية المتقدمة ليست تقنية إدارية بل مشروع سياسي عميق يهدف إلى توزيع السلطة والمسؤولية بشكل عادل، وتحويل الجماعات والجهات إلى فضاءاتٍ فاعلة في التنمية لا مجرد ملحقات تنفيذية. العدالة المجالية، كما يتصوّرها الحزب، هي الضمانة الحقيقية لوحدة الوطن وتماسكه، وهي المعيار الذي يُقاس به نجاح أي إصلاح سياسي أو اجتماعي.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإنّ الشباب المغربي، الذي عبّر خلال السنوات الأخيرة عن مطالبه بلغة احتجاجية جديدة، لم يخرج ضد الدولة بقدر ما خرج بحثاً عن دورٍ داخلها. هذا الجيل لا يطلب الامتياز بل الاعتراف: أن يُمنح فرصة متكافئة في التعليم، في التشغيل، في القرار. لذلك، فإنّ إعادة السياسة إلى المجتمع تمر بالضرورة عبر إدماج الشباب في الفعل العام، لا في الخطاب فقط، عبر فتح قنواتٍ جديدة للمشاركة، وتبسيط آليات المبادرة المحلية، وتحويل الجماعات الترابية إلى مدارسٍ للمواطنة الفاعلة.
المؤتمر الوطني للاتحاد الاشتراكي كعادته ليس، إذن، محطة لتبادل الخطابات، بل لحظة تأسيسية لإعادة تعريف وظيفة الحزب ودوره في مغربٍ يتغير بسرعة. إنه عودة إلى الجذور ولكن بعين المستقبل، إلى الأصالة المبدئية ولكن بأدواتٍ حديثة قادرة على مواكبة تحولات المجتمع والدولة والاقتصاد. فحين ينزل الحزب إلى الميدان، ويستمع للمواطنين في القرى والمدن، ويحوّل هذا الإنصات إلى برنامجٍ عمل واقعي، فإنه يؤكد أن السياسة لا تموت إلا حين تنفصل عن الناس، وأنّ استعادتها تمر عبر القرب، والصدق، والمساءلة.
يبقى التفاؤل الواقعي هو العنوان الأبرز لهذه اللحظة الاتحادية. تفاؤلٌ لا يقوم على المجاملة ولا على الحنين، بل على قناعة بأنّ المغرب، رغم أزماته، يمتلك من الرصيد الدستوري والمؤسساتي والإنساني ما يؤهله لنهضةٍ جديدة، إذا ما تمّت المصالحة بين السياسة والمجتمع. فالمستقبل لن يُبنى بالخطاب الانفعالي ولا بالانسحاب من الشأن العام، بل بعملٍ وطني جماعي يعيد تعريف السياسة كفنٍّ لخدمة الوطن لا كصراعٍ على المواقع.
إنها دعوة إلى الأمل، لا بالمعنى العاطفي، بل بالمعنى العملي: أن نعيد للسياسة معناها، وللمؤسسات هيبتها، وللوطن طاقته على التجدد.
(*)عضو المجلس
الوطني للحزب

الكاتب : ذ. كمال الهشومي * - بتاريخ : 17/10/2025