ما ألذّ خبزَ الفرح بمذاق نصر أمة عربية واحدة

أحمد المديني

قبل أن تنتهي المباراة بدقيقة كنت أتوقع أن يرنّ هاتفي، بالأحرى أن يُحدث دبدبته، أضعه غالبا في الصامت. لا أتوقع أحدا قبلها، وقد يعنيني كثيرا أو قليلا من بعدها، ولا يعني. أنتم لا تعرفون يطّو، أما أنا فبتُّ ـ أكاد ـ لا فكاك لي منها. يُطِلّ صباح الاثنين لأسمع صوتها يخرج من تحت الوسادة أو اللحاف، وربما يشرئب من السقف، فلها أشكال وأوضاع، تسأل، تطل، تُحفّز، تستفز: أين مقال الأربعاء؟! وسواء أعددته أو بطؤ، أعي سلفا لا مزاح مع يطّو، أستجيب بطيبة خاطر فهي تفعل تطوّعاً وإيمانا بقضية وإخلاصا لقراء، هي أحرصهم.
هذا الأسبوع عنّ لي أن أعصاها، لا تعنّتاً أو عناداً، فقد تجاوزت عمر هذه النزوة، كلّ ما أصنعه أقوله اليوم هو بعزم وإدراك وقرار، ولأن لا أحد سيسامحني، أولُه ضميري، إن أخطأت. صمتتُ هنيهة بعد أن جاء صوت يَطّو من وراء الهاتف وكأنها أرخميدس يخرج من مغطسه وينطلق عاريا في طرقات أثينا يصرخ/ أوريكا، أوريكا(وجدتها!): ستكتب عن الفوز، النصر، الفرح المغربي! أسمع صوتها متدافعاً يزحم الهياج الذي أراه في مدرجات ملعب الدوحة للجمهور المغربي النصير بعد أن أطلق الحكم صفارة نهاية المباراة التي جمعت الفريق البلجيكي ونظيره المغربي وحسمت بنتيجة هدفين لصفر لصالح هذا الأخير.
وبما أني لم أكتب يوما بأمر، ولا أستحبّه، اللهم إلا في زمن كان الانضباطُ فيه شِرعةً ومن أجل استحقاق، فقد لُذت بالصمت، بينما أكاد أشمّ نفسَها ساخناً عبر الأثير وسيصّاعد حين أردّ عليها أن لا طاقة لي بما تطلب، وإذا بالصوت يلهث، يا سي فلان، والقارئ، ألا يعنيك القراء، أنا واحدة منهم وفي الانتظار؟ وبنبرة تشارف على الاحتجاج زادت: ثم، هل أحد لا يطيق الفرح يا أستاذ؟! وسكتت بين المنكسرةِ والمستغربة والعاتبة.أطرقتُ بعدها كيف لي تحمّل هذا العتاب، صرت أغلي تحت مجمر ثلاث نيران: حقّ القارئ إليه نرسل كلّ كلام والمعنيّ بالخطاب، مهما تنرجَستْ أنا الكاتب يبقى المصبّ؛ ونارُ العتاب، ومن امرأة، ومن لا يجبر خاطر أنثى فهو عديم لياقة ولا يُثاب؛ والنار الثالثة، هذا الطوفان الهائج من بشر غطى الشوارع والأزقة والسطوح والشرفات وهام على وجهه في كل ساح قد ضاق صدره، مفارقة وعجبا، بكمّ البهجة واحتاج إلى المدى الشاسع من الإنسان والمكان لعلهما يتسعان لفرحه.
وسواء احترقت بهذه النيران الثلاث حتى صرت رمادا، أو جمرة أخرى انضممت إلى أوارها لهبا، فقد كان ما عاشه المغرب كلّه حدثا مدهشاً أكبرَ وأبهرَ أعمقَ من شعوري وأبلغَ مما قد يخطه أيّ قلم أو يُروى شِفاها لسان، لذا صرحت بعجزي لا طاقة لي، ثمة حدودٌ للكلمات مهما شطح الخيال ورقصت قيان وخصور البلاغة، وصورة مشاهد الحشود التي تجتاح الشاشات والشوارع والميادين محتكة ببعضها تهمهم وتهتف وتغنّي وفي حالة هذيان لغتُها أبجديةٌ أخرى وقاموسُها مختلف لن يفهمه الراقدون تحت التراب ولا أحياءٌ غيرُهم يحتاجون إلى تعلم وفهم والإحساس بمعنى خروج شعب بأكمله إلى الشارع للتعبير عن الفرح ومن أجل الفرح وحده من شدة جوعه وعطشه للحظة فرح؛ فليقنصوا الدرس، إذن.
كانت مناسبة أيضا ليعبر شعب بتعدد أعراقه ولغاته وثقافاته وطبقاته، إضافة إلى الروابط المُحكمة بين المكونات والمتوارثة عبر التاريخ والمتنامية، أيضا، عن حاجته إلى تجسيد صلابة هويته وتمتينها وهو فيها ومنها، معبراً بالموقف، بظاهرة الحشد الكثيف والمتضامن المجتمِع حول لحظة فرح نادرة وهاربة فلتة في الزمن، أنه غير منقسمٍ ولا ممزقِ الأوصال كما تريد له نعراتٌ في الداخل والخارج، وإذا كان يعضّ على حديد الحاجة اليومية ويتلوّى أبناؤه بآلام عارية وموجعة، وثرواتُ بلاده غير موزعة بالعدل والقسطاس، فنفسُه مترعةٌ بالآمال؛ أقول بذا ورغم هذا وسواه من الجراح أهدته نخبة لاعبين منبثقين منه، طالعين من حرمانه وخشوعه وتهجّده في كل صلاة وصبره الطويل النبيل، هديةً كالمعجزة، تخفّف من البلوى وتلأم الجراح، فغنِمها غُنماً واكتسح الشوارع بألوية الأفراح.
لا أحد في الأرض يستطيع مهما أوتيَ من جبروت وتسلّط بالطواغيت، ويلفّق من شعارات ويمزق من أواصر ويُسوِّد الأفق باليأس أن يغلبَ الشعب، والشعوب العربية هي التي رفعت صوتها خلال مباريات كأس العالم الكروي لهذه الدورة في قطر لتكذّب اليائسين وتخذِل الشامتين، وتعُيد عقرب الأمة العربية إلى ساعة الوحدة والتضامن. ماذا أقول؟ هل أنا عاقل أم مجنون؟ ألا أخشى أن أُلقَم حجرا إذ أنطق الآن باسم الأمة؟ كيف أسمح لنفسي باستخدام تسمياتٍ قيل عفّى عليها الزمن وأصبحت في خبر كان، وٌجدت في زمن اهترأ في سابق العصر والأوان؟ هه، هه، أنا إذن من أهل الكهف، ولم أسمع أن منظمة الجامعة العربية استعاضت اسمي الأمة والشعوب بالمجموعات العربية، اقتنعت منفردةً باسم الحكام وحدهم أن الأمة ماتت ومن الواقعية استخدام مقتضى الحال، أي لسان الفرقة الشتات لحكم فُتات!
منذ أعوام بتنا منبوذين إلى حد يَصدُق علينا وصف طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة، أي «إلى أن تحامتنا العشيرة كلها/ وأُفردنا إفرادَ البعير المُعَبَّد». سَمّونا، لا بل وصمونا مقتاً وشماتةً بـ»القومَجيين» القصد نحن الذين بقينا نؤمن بوجود أمة عربية ممتدة حقا من الخليج إلى المحيط وما يجمعها لغة وتراثا وثقافة وعقيدة وروابط تاريخية واجتماعية وإنسانية وطيدة أكثر مما يفرقها وهو يغني فراداتها وخصوصية كل شعب مكوّن فيها. ربطوا الانتماء بل الارتباط بالعروبة والمصير العربي المشترك بكل مظاهر الرجعية والتخلف وسذاجة فهم الواقع(واقعهم، طبعا) وعموما ضد منطق التاريخ(تاريخهم) ونقيض للدولة الأمة في تصورّهم رغم أن» القومجيين» المغلوبين على أمرهم، الذين أفلتوا من حبل مشنقة التشنيع والتشهير ووأد أي طموح لهذه الأمة في أن تتكامل وتتعمق عندها هوية كبرى ضمن الهوية القطرية، لم يواجهوا خصومهم بالشعارات الرعناء ولا خطاب الإلغاء الإقصاء، فقد تكالب هؤلاء على جميع الانتماءات السابقة عليهم والإيديولوجيات سفّهوها متنطّعين أن لا ماركسية ولا اشتراكية ولا قومية ولا عروبة ولا علمانية ولا أمة بعد اليوم، أي بعدهم. وإذن، ماذا يوجد؟ من بقي؟ هم. ومن هم؟ هذا سؤال يتفننون ويخاتلون ويموّلون مراكز الدراسات التابعة لتلك الأفلاك ومفكري الصفقات، للإجابة عليه، مدجّجين دائما بما يلزم من قوة وعتاد، هم يوجدون وأنت تُباد. لا بأس من هذا كله، إنما ثمة صوت آخر يسأل: قولوا لنا من أنتم حقا وخذوا بقية البلاد؟
ببساطة وتواضع تام: هو صوت ملايين الشعوب العربية تفجّرَ وصدحَ من حنجرة واحدة ينصر بعضُه بعضا، أي نعم، من الخليج إلى المحيط، الشعارُ الذي مسخه ذوو العيون الحولاء والنفوس المريضة إلى « من الماء إلى الماء» بينما هو عقيدة وإيمان الملايين العرب، وإرادة هذه لا تُقهر. أريد أن يكذبني واحد فقط وسأسكت إلى الأبد، وكيف وأنا ثمِلٌ معها بكل هذا الفرح، العابر نعم، إنما نعضّ عليه بالنواجذ، فقد أحيا أمة حسبوها رحلت هباء في البدد.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 30/11/2022