متى تعود الجزائر إلى رشدها، وتَرْعَوي عن غَيّها؟

محمد بودويك

ومِنَ البليَّة عذْلُ مَنْ لا يرْعَوي ………….. عن غيّهِ، وخطابُ مَنْ لاَ يفهمُ
ومن العداوة ما ينالك نَفْعُـــــهُ ………….. ومن الصداقة ما يضُرُّ ويؤْلِمُ

****************************

متى يعود النظام الجزائري الحاكم إلى رشده، ويهتدي، ويدرك خطأه، وخطلَ حساباته، وخطيئته؟، هذا النظام الكابس والجاثم على أنفاس النخبة المدنية المستنيرة: سياسيين ومثقفين، منذ عقود، وهم يرون ما يقوم به حكامهم، وما يرسلونه من شر مستطير، ويفوهون به من كذب وإفك ومغالطات تنشر عبر الصحافة المكتوبة الموجهة والمدجنة، والإعلام المرئي المخدوم، برعونة وطيش لم يُرَ ويبصرْ ما يكاتفهما ويماثلهما في أي قطر من الأقطار، وفي أي مَصْر من الأمصار. ذلك أن العدوانية استَشْرَتْ، وهاجت وماجت، وتجاوزت كل الحدود، والعلاقات المرعية ولو في حدها الأدنى، داهسةًورافسةً بالجَزْمات قيمَ الجوار والأخوة والتاريخ والدين والمصير المشترك، واضعة أسلاكا شائكة هنا وهناك، وموقدة ناراً حامية تتواثب حمقا وسفاهة ونذالة. ومع أن المغرب بكل شرائحه وفئاته وطبقاته، من خلال شخص ملكه الحكيم، ما فتيء ويفتأ مادّاً يدَه البيضاءَ، يدَه الكريمةَ، يدَ المحبة والحرص على حسن الجوار والجيرة، يد التاريخ والحاضر والمستقبل المتلامح، والآتي القادم من أجل أن يتمازج الشعبان الشقيقان الأخوان يداً في يد يبنيان حياة الدعة والأمان، ويأكلان من نفس القصعة، من خيراتها، وما تكنز أرضهما وتدخره من قوت وماء ووجود. مع ذلك، فإن الطغمة العسكرية الحاكمة المستكبرة المتكبرة، تجيب بِمَد يدٍ لاَ مرئية مضرجة بالدم والدخان، مرتدية قفازا غليظا ثخينا من حديد صديء يمعن في إغلاق الباب، وإحكام السياج والرتاج والمزلاج. مدعيةً ـ من دون وجه حق، ولا إحضار للعقل والنُّهَى، أن المغرب عدو لدود لا يستحق الجوار ولا التعامل المطلوب، وأنه سبب ما هي فيه من مآسٍ وصداع وبوار. عدو ينتهك غاباتنا ويتلفها، ويؤلب مواطنينا الأمازيغ علينا، ويزاحمنا في إفريقيا، ويتقدمنا في الرياضة والسياسة والاجتماع، ويتصدرنا كرويا، ويشتهر إقليميا وقاريا وعالميا يوما عن يوم بكونه أرض الهناءة والسلم والأمان، ومحط مديح وتتويج من قِبَل هيئات ومؤسسات دولية وغير دولية. ثم تعود القهقرى إلى نبش الماضي، نبش حرب الرمال الستينية في القرن المنصرم، بانيةً عليه ما تعتبره وتعده في لغتها: «حكْرَة»، واستئساداً وظلماً، ناسية أو متناسية أن رُقَعا أرضية صحراوية مغربية غنية وعريضة أُخِذتْ من بلادنا ومُزِّقتْ شر تمزيق، وأعطيت للجزائر من طرف الاستعمار الفرنسي غِبَّ استقلالها.
ومع ذلك، راحت منذ 1975 في اندفاع محموم يتطاير شررا، تطرد آلافا مؤلفة من مواطنينا ضمن عملية ترحيل وتهجير قسرية على عهد الرئيس هواري بومدين كرد فعل سريع غريب وغير مفهوم على المسيرة الخضراء. وطفقت بجنون تجند أبناء المغرب الجنوبيين ضد وطنهم الأم، صانعة من العصاة المتمردين، مرتزقة يوالونها، ويسبحون بحمدها، عَمَّدَتهم وأسْمَتْهُم ب «البوليزاريو» حاضنة لهم ومُبوّقة، وملفقة ما تراه قمينا بفوزها في المحافل الدولية، وناشرة لدى حلفائها، والبلدان المغرر بها، الطامعة في غازها وبترولها، فكرةَ «المغلوبية»، والطرد، وسرقة أرض صحراوية من أولئك المساكين الذين لا يجدون لقمة تسد رمقهم، وجرعة ماء تطفيء ظمأهم، كما لا يجدون سقفا حانيا، ولا خيمةً رؤوماً تأويهم وتحميهم، أو غيمةً «نبوية» تظللهم في غدوهم ورواحهم، والحال أنهم مغاربة حتى العظم. وكانت عادتْ ـ في فترة ما، ومرحلة عُدَّتْ استثنائيةً ـ بِشارةُ الصداقة والأخوة، وتوهجت أواصر القرابة والجوار بين الشعبين اللذين رَغِبا ولا يزالان في رأْب الصدع المفتعل، وإنهاء القطيعة السريالية، والشق المدبر من لدن النظام الجزائري، وعودة المياه إلى المجرى الواحد المشترك. واستبشر الجميع خيرا، وقلنا ـ مبتهجين ـ: إن أولَ الغيث قطرٌ، وأن الجزائر الرسمية ستعود إلى رشدها، وتكف عن ضلالها وتضليلها، وتقلع عن الدسيسة والافتراء والرُّعونة، والسباحة ضد التيار، وسيل الادعاءاتوالدعاوى المغرضة، والأوهام الملفقة والمزركشة التي ما انفكت تَسْلِقُ بها بلادنا، وتُزَنِّرُها بحبل من الأكاذيب والتُّرَّهات. غيرأن القَطْرَ لم يلبث أن تبخر، وعودة الروح لم تكن إلا سحابة صيف وبرقاً خُلَّباً لمع ولعلع ثم خبا واختفى ليعقبه غبارٌ لا أمطارٌ، وزَفْتٌ لا جوارٌ اكتسح الفضاء، وشكل ستاراً من غدر ولؤم مرذولين أتاهما النظام الجزائري، وأوْلَج متقصداً شوكةَ العداوة عميقاً في ظهره، ومَصْل الكراهية الأصفر في كُريات دمه، فاهتاج وماج، وصار كل ما يحققه المغرب في الرياضة أو الاقتصاد والسياسة، والاعتراف الدولي المُطَّرد بحقه المشروع التاريخي في صحرائه، وبنجاحه في إقلاعه التنموي، عاملا مثيراً للغضب والإرغاء، ومُنَبِّها للصراخ والزعيق والنباح.
لكن المغرب يمشي قُدُماً وبإصرار. إنه القافلة التي تسيرغير عابئة بالنباح، جادةً راسمةً خطها الموصل إلى الواحة المنعشة الزاهرة حيث الماءُ والعراجين والسَّعفاتُ، تنشر البَلَل والفيء والظلال والغِلال، وتمنح أشهى وأحلى التمور والثمار.
نعم، ثَمَّةَ ما يزعجُ ويُسَهِّدُ ويحمل على الحسد لقاءَ أعمالنا وأفعالنا وإنجازاتنا التي حققناها، والتينقوم بها من دون هرج ومرج وضوضاءَ. وثمَّةَ ما يدفع إلى اقتراف جريرة الشتم والسب والقذف، وتصديق النفس الأمّارةِ سوءاً وإحناً وضغينةً. لأن الشتم والقذف من شيم الضعفاء، لا من شِيَم الأقوياء، فالعقلُ يَعْقِلُ، والتهور يُرْدي، والرأيُ قيل شجاعة الشجعان. لا نريد أَنْ نتمثَّلَ بيتَ أبي الطيب المتنبي، الموالي ونقتديَ به، ونهلِّلَ له:
ومن العداوة ما ينالك نفعُـــهُ ///// ومن الصداقة ما يضُرُّ وَيُؤْلـــمُ لأننا نود ـ صادقين ـ أن تعود الجزائر الشقيقة إلى رُشْدها، وتَرْعَوي عن غَيِّها، ونحرص الحرصَ كله على الصداقة الحقيقية النافعة المثمرة المخلصة الوفية لفائدة الشعبين الأخوين، لا الضارة المؤلمة والانتهازية، وتنمحي العداوة انْمِحاءً كليا.
فالمعنى واضح وماثلٌ: فتوخي الحذر من العدو قائمٌ ومتوثب ومتأهب في أحايينَ كثيرة، بينما طعن الصديق قد يَحيقُ بالصديق كالمكر تماماً من دون أن يتفطَّنَ هذا لذاكَ.

الكاتب : محمد بودويك - بتاريخ : 07/09/2023

التعليقات مغلقة.