مسألة الدولة ومشكلة الحكم

عبد السلام المساوي

تعتبر مسألة الدولة ومشكلة الحكم واحدة من القضايا التي تشكل موضوع علم السياسة الحديث بامتياز. كما أن واقع اهتمامات المفكرين والمصلحين الاجتماعيين المعاصرين يشهد على أن قضية الدولة والمسائل المرتبطة بها والمتفرعة عنها قد احتلت حيزاً هاماً من تفكير القدامى والمعاصرين على السواء.
ورغم ذلك فإن قضية الدولة، وقضايا السلطة ورموزها المختلفة، ظلت على مر العصور مجالاً مفتوحاً للجدل الفكري والسياسي يستوعب الآراء المختلفة والمتناقضة في كثير من الاحيان. وهو مجال لإثارة الأسئلة أكثر مما هو مجال لتقديم وصياغة الأجوبة الحاسمة والنهائية. ولا يبدو أنه من الوارد أن تتوقف الدولة عن كونها كذلك في المستقبل المنظور والبعيد معاً. ولعل هذا ما يضفي على مسألة الحكم أهمية خاصة، ليس من حيث كونه أحد الموضوعات الثابتة والملازمة للتفكير الانساني منذ بروز الأشكال الأولى للحكم في العهود الغابرة فحسب، بل ومن حيث أن نتائج البحوث المنجزة حول هذا الموضوع دائمة التجدد والتنوع بمرور الحقب التاريخية.
وبطبيعة الحال، فإن هذا لوحده كاف لإبقاء حقل الدولة والحكم حقلاً ملغوماً على الدوام، يقتضي التقدم في ساحته امتلاك رؤية وتصور نظري يقومان بمهمة تشبه مهمة كاسحة الألغام، ويوجهان خطى الباحث في هذا الميدان.
صحيح أن الأدبيات والدراسات الخاصة بمسألة السلطة كثيرة وأوسع من الحصر ضمن قائمة محدودة. وصحيح أن الأسئلة الجوهرية الكبرى حول ماهية السلطة، وطبيعة أجهزة الدولة المختلفة وآليات الحكم والإيديولوجيات الموجهة لأنظمة الحكم، صحيح أن الاسئلة حول كل ذلك، قد أثيرت، بهذا القدر أو ذاك من الوضوح والدقة، لدى المفكرين القدامى والمحدثين، لكنه صحيح أيضاً، أن كثرة التفكير في الدولة لم تؤد دائماً الى إنتاج وبلورة نظرية للدولة على حد تعبير المفكر العربي عبدالله العروي. لكن ينبغي الاعتراف بأنه لا إمكان لقيام «نظرية الدولة» دون إمعان التفكير وولوج الدروب الوعرة التي تفتحها الدولة والقضايا المرتبطة بها أمام الباحث.
وهنا تكمن الأهمية البالغة لأعمال الرواد في هذا المجال، حتى أولئك الذين تناولوا قضية الحكم عرضاً. فليس من الواقعي في شيء ولا من المنطقي مطالبة كل الذين فكروا في الدولة بأن يصدروا في تفكيرهم عن نظرية للدولة قائمة بالذات، أو أن تفضي محاولتهم مقاربة هذا الموضوع الى «نظرية للدولة» واضحة الاركان والمعالم. ذلك أن التفكير قد ينصب فقط على بعض أدوات السلطة وأجهزتها دون أن يطال فكرة الدولة أو فلسفة الدولة، خصوصاً عند المفكرين القدامى. فهؤلاء لا يطرحون على أنفسهم مهمة الجواب عن السؤال حول ماهية الدولة ومتى تشكلت أو الظروف التي ساعدت على بروزها. إذ الأهم بالنسبة إليهم هو علاقة الدولة والحكم بالأفراد و»المجتمع». فالسؤال الأول المطروح يدور حول وظيفة الدولة. فالدولة معطى واقعي مسبق. وقد كان السؤال الأهم الثاني منصبا» حول كيفية المحافظة على الحكم ومصادر قوة الدولة ومواطن الخلل والضعف فيها.»
إن المفكر الصيني القديم كونفوشيوس مثلاً من الذين أبدوا الاهتمام بمسألة الحكم. وتدل بعض الشذرات من كتاباته على أنه قد حاول صياغة بعض الاسئلة وتقديم إجاباته الخاصة بها حول دور ووظيفة الحكم وعلاقة الحكومة بالأفراد.
جاء في كتاب «الأغاني « لكونفوشيوس أن أحد «المواطنين» ويدعى (تزه – كونغ) سأل المفكر الصيني عن واجبات «الحكومة» إزاء الناس وعن الطريقة المثلى للمحافظة على سلطة الدولة.ـ وكان جواب كونفوشيوس: إن على الحكومة أن تكون قادرة على تحقيق ثلاثة أمور في آن واحد.
أولاً: توفير الطعام الكافي لمجموع المواطنين لوقايتهم من الجوع والمرض.
ثانياً: تحقيق القدر الضروري من العتاد الحربي للدفاع عن البلاد وحماية المواطنين والمحافظة على الأمن.
ثالثاً وأخيراً: العمل على اكتساب ثقة الناس بحكامهم.
وعلى الرغم من موافقة «تزه – كونغ» كونفوشيوس حول رأيه في هذه الامور إلا أنه كان مدركاً ان هذه المتطلبات مرتبطة بالظروف العادية التي تمر فيها الحكومات المختلفة. وهذا قد لا ينطبق على الحالات الاستثنائية. لذلك سأل الحكيم الصيني عن المهمة التي بإمكان الحكومة التخلي عنها أولاً، إذا كان لا مناص من الاستغناء عن إحدى المهام التي عليها تحقيقها. فأجاب كونفوشيوس بقوله: العتاد الحربي. وعاد «تزه- كونغ» الى السؤال عن أي من الأمرين الباقيين يمكن التخلي عنه أولاً. فيجيب كونفوشيوس قائلاً: فلنتخل عن الطعام ، ذلك أن الموت منذ الأزل قضاء محتوم على البشر. أما إذا لم يكن للناس من ثقة بحكومتهم ،فلا بقاء «للدولة».

تكتسي الثقة إذن أهمية حيوية في استمرار الدولة، ذلك أن ثقة المحكومين في الحاكم هي دعامة هذا الاستمرار، بل إنها شرطه الذي بانتفائه تندثر الدولة وتضمحل أجهزتها المختلفة. فهل تغير هذا الوضع في علاقة الدولة الحديثة بالمجتمع، وما علاقة ما يعبر عنه الولاء للدولة بالثقة التي أثارها كونفوشيوس في حواره مع «تزه – كونغ»، أي ماهي طبيعة العلاقة التي يمكن أن توجد بين مسألة الثقة في فكر القدامى وبين قضية الولاء الذي نراه يتردد عند عدد كبير من المفكرين السياسيين في العصور الحديثة، خصوصاً أن هذا الولاء يشكل لديهم، هم أيضاً حجر الزاوية عند استعراض أهم الركائز والأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة؟.
يذهب بعض المفكرين إلى أن الدولة باعتبارها كياناً اصطناعياً من إبداع الفرد الحر إنما أنشئت في الأصل، وعليها أن تظل على الدوام، في خدمة هذا الفرد الذي يعود إليه الفضل في إبداعها. وتأسيساً على ذلك، فإن هؤلاء المفكرين ينزعون الى إقامة نوع من العلاقة العضوية بين الدولة والمصلحة، أي مصلحة المجتمع بطبيعة الحال، على اعتبار أن المجتمع لا يملك أية قيمة في ذاته ما لم يضطلع بمهمة «رعاية مصلحة الفرد».
ورغم أن الغرض من هذه العجالة ليس بحث طبيعة هذه «العلاقة العضوية» المفترضة بين الدولة والمصلحة، فإنه يمكن أن نشير إلى ضعف الأسس التي يقوم عليها هذا التصور في إطلاقيته. ويكفي في هذا المجال التعرض للنقد الذي ساقه الفيلسوف والمفكر الألماني هيجل لهذه الفكرة، وذلك من أجل رفع لأي لبس ممكن حول الأساس الفكري الذي ننطلق منه في مقاربة مسألة الدولة والولاء في هذه السطور.
اعتمد هيغل مفهوم التضحية في معرض تفنيده للرأي الذي يفترض إمكان فهم ماهية الدولة الحقيقية من خلال التفكير بمفهوم المصلحة الفردية حصراً. فيؤكد أن الدولة بما هي كذلك غير قائمة على مصلحة الفرد بل وليست مهمتها الرئيسة هي الدفاع عن المجتمع المدني، غير أن هذا لا يعني أن الدولة تعادي في جوهرها أو بنائها، وبالضرورة، مصلحة الأفراد والمجتمع المدني بدليل أن الدولة تحتضن من المؤسسات والهيئات التي ترعى مصالح الأفراد ما لا يمكن حصره.
وعلى هذا الأساس يلح هيغل على ضرورة التوافق بين الغاية العامة التي تمثلها الدولة وبين المصالح الخاصة. ذلك أن انفصال المصالح الخاصة عن الغاية العامة هو الذي يؤدي بالضرورة الى انهيار الدولة القائمة (انظر د.عبدالله العروي، مفهوم الدولة، ص24).
من الواضح أن الأولوية في هذا التصور للدولة «المعقولة» القادرة على استغراق روح الشعب ومن ثم مصالحه الأساسية. وبطبيعة الحال، فإن الولاء لهذه الدولة يكاد يكون واجباً أخلاقيا. ما يهمنا في هذا السياق هو هذه القطيعة بين الولاء بمعناه العشائري القائم على علاقات الدم والقرابة، وبين الولاء بالمعنى الحديث الذي يبحث عن أسسه في أكثر معطيات واقع الحياة متانة وقوة. وهذا يعني أن الولاء في الوقت الذي لا ينفصل فيه عن المصالح (أي الحاجات الاساسية للشعب) فإنه أوسع وأبعد من أن يتم حصره في مصالح سياسية ضيقة. ولأنه كذلك، فهو يتضمن ضوابط تخرجه من دائرة المطلق الى دائرة النسبي. أي أنه ولاء مشروط، على عكس الولاء العاطفي الذي تطرأ عليه انكسارات عميقة في الحالات الاستثنائية تجعل من الصعب ان لم يكن مستحيلاً التكهن بما ستؤول إليه العلاقة مستقبلاً بين الحاكم والمحكوم في ظل معطيات متغيرة باستمرار.
ولعل ما يضفي على هذا الولاء المرتبط بالمصالح العليا الخاصة علاقة التلازم التي ينبغي أن تقوم بينه وبين الحرية والعدالة الاجتماعية والسياسية. وبهذا المعنى يمكن الحديث عن تحول الولاء الى نوع من العقد الاجتماعي غير المكتوب بين الحاكم والمحكوم. وبه يتم القياس والحكم على صلابة الدولة ومتانة بنائها. وهو في كل الأحوال أعمق وأشمل من مقياس القوة العسكرية كما قد يبدو للبعض. وعلى هذا المستوى، فإن هناك خيطاً دقيقاً يربط عبر العصور بين الثقة كما بين كونفوشيوس وبين الولاء بالمعنى الآنف الذكر.
ألا يصح إذن القول مع القائلين بأن الولاء، في نهاية المطاف، هو بمثابة ميزان التقارب بين الحاكمين والمحكومين؟ أو بعبارة أخرى إنه «ميزان» تكامل السلوك الانضباطي والشعور بالحرية. (العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ). إن انفراط العلاقة الناجم عن المبالغة في ترجيح جانب «الحرية» ودفعه الى تخوم الفوضى يفقد الدولة أساساً هاماً من أسسها ويضعها في مهب كل ريح .

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 08/07/2023

التعليقات مغلقة.