مع إدغار موران، في دروس مائوية عيش مستحق

أحمد المديني

لماذا يمثل بلوغ المفكر لفرنسي إدغار موران المائة من حياة حافلة وباهرة، مناسبة تحتفي بها الأوساط الثقافية في فرنسا، وامتداداً إلى المحافل الأكاديمية والتربوية التي تنقل بينها الرجل وتفعلت مع أفكاره وحضوره المؤثر في أجوائها حتى وهو يدرك يوم الثامن من الجاري قرنا كاملا من عمر بهي؟
للوهلة الأولى يبدو طول العمر لافتاً، غير أن المعمرين في عالمنا ما عادوا ظاهرة شاذة، وهم يتزايدون في موسوعة غينس للأرقام القياسية، فيما موران( إدغار ناحوم) يتحدى هذه الموسوعة بخرق مقاييسه إذ لم يبلغ أرذل العمر، عاش وتقلّب في جميع المراحل والدواهي والأحداث الجسام والعظيمة للقرن العشرين، وتاليه يمشي دائما في طليعته، نحتت شخصيته من جميع نواحيها، فكرا وشعورا وذوقا وخطوط حياة، إنما ليس بالأخذ والتلقي المستسلم أو الحيادي؛ كلاّ، المتفاعل والمتصارع والخلاق، فبهذا يعرف المفكرون العلامات في عصرهم لا بالاجترار وافتعال الصرعات العابرة، لذا الاهتمام به لأنه أصيل وحداثي حتى النخاع، أو بتلك الروح التي سماها رامبو(أن تكون حداثيا مطلقا) ورغم أن موران لم يكن شاعرا إلا أن نسغ الشعر كان إحدى الغصون اليانعة لشجرة أنسابه، من الطريف والمميز أنه لم يرثها كسائر الناس، بل هو من بذر نبتتها وبقيت تنمو وتكبر سامقة حتى يومنا هذا. لقد كان على هذا الإبن الذي لأبويه أصول متعددة (يهودية، يونانية، وإيطالية) ولم يرث عن والده بشهادته أي ثقافة محددة، ولا هو زوده أو ألزمه بها، هكذا صنع نفسه بنفسه، وانخرط في العصر وكأنه تاريخه الشخصي، فلا يكادان ينفصلان.
لذلك لن يفوت مقتفي السيرة المورانية أن ينتبه لتسرّب ملامحها مبثوثة في كل أعماله، ذات الطابع المتعدد والروافد والاختصاصات المتنوعة وإن المتكاملة على غرار الموسوعيين، ما انفككت في جدل المعاينة واستيحاء مستجدات زمانها والانفتاح على كل عطاءته وقرنها بالاقتراح والاجتهاد الذي أخذ أحيانا صبغة لا تعترف بها الأوساط الأكاديمية تراها ذات طبيعة سجالية ونضالوية، من غير أن يخفيها صاحبها ويقدم الثمن من أجل مواصلة موقف الوعي النقدي، بادئا من قلب ثقافة المركزية الغربية فرنسا في الأساس (من الثلاثينيات العظمى، مرورا بالحرب الكونية الثانية وانخراطا في المقاومة، ومناهضة النازية ومراجعة الانتماء إلى الشيوعية، والسباحة بعد ذلك في بحار الثقافات والفنون في قارات أبعد مثلت الولايات المتحدة الأمريكية إحدى فضاءاتها الأرحب. لا عجب أن هذه السيرة مرآة عصر كامل تبرز تشكيل فسيفساء لثقافة كونية عقلانية وملتزمة وإنسانية أصبح معلوما ان التركيب هو نسقها المهيمن.
لا عجب كذلك، أن سَمّى إدغار موران سيرته الرسمية الأولى الجامعة (الذكريات تأتي إلي)(2019)ثنّاها أخيراً، وهو يشرف على المائوية الثانية من عمر من حديد وعقل وحب:» (Leçons d’un siècle de vie)(2021 Denoel)(دروس قرن من حياة) ويا لها حياة!
في هذا الكتاب الذهبي حقا عصارة عمر وتجربة في الميادين كافة، ففهرسه إدغار موران إلى سبعة فصول مع ملحقات، وهي مجتمعة ترسم المسار المتعدد والمتشابك والمركب الذي مشى فيه وجسد الصورة التي نراها عليه وصنعها بدقة ورهافة تامة كثيرا ما كانت الصدفة يداً فاعلةً فيها. يمكن باختزال شديد تعيين أبرزها في: وحدة الهوية وتعددها، هي أول ما يسمه، وبالطبع يحمي من الجمود والانغلاق، ويكسر بالصفة الإنسانية الشخصية ذات البعد الواحد. بل إن رفض الهوية الواحدة من ضرورات. لا يقين مسبق في الحياة، والإنسان لا يتصرف دائما بكيفية متوقعة، إذ مهما وضعنا من برامج وامتلكنا يقينيات فإننا، حسب موران، نبحر في محيط من الشكوك. كذلك التاريخ لا يخضع للحتميات الاقتصادية ومثلها بل كثيرا إلى ما يشبه العبثية الشكسبيرية. من هنا يرى أن أكبر دروس حياته هو الكفّ عن الاعتقاد بديمومة الحاضر، واستمرارية الآتي، والتوقع للمستقبل، فما أكثر المفاجآت التي تهز حياتنا.
إن معرفة كيف نعيش ومعناه، لهو درس كبير آخر، وهو ربط بين الفردي فيه والجماعي، أي أنا ونحن في وقت واحد. وكم جميل أن يجد رابطة حميمة بين الأنا وحقائق الحياة، يسميه الشعري، شعرية الحياة بعبارة السورياليين، التي تولد السعادة وكامنة فيها، وضد نثريتها والشقاء مصدر الألم. في مساره الطويل اكتشف كيف ارتخت العلاقات بين البشر وفترت العواطف وغلبة مقياس الكم والحساب، وهناك شعرية الشعر في روايات دستويفسكي ولوحات ديغا وتاسعة بتهوفن، ليبقى الحب عاطفة والتحاما جسديا أعظم الشعر.ثمة درس آخر مهم، يحصره في تعقيد الوضع البشري وعدم الانجراف مع منظور السطح، ما جعله ينتقل بين المعارف وبين النقائض حيث طبقات وأزواج وتداخل أجناس وثقافات، تلقيح ماركس بشكسبير، ما استخلصه هنا أن كل عاطفة ينبغي أن تحرسها عين العقل والعكس مطلوب.

من عمّر قرنا كاملا واجتاز إلى ما بعده عاش أيضا حياة سياسية بتجارب حافلة ومثيرة، هي جزء أساس من تكوين شخصيته وفكره المركبين، يكفي أن نستحضر الإيديولوجيات والحروب والنزاعات (الحرب النازية والاحتلال والمقاومة، والخيبة من النظام السوفياتي من بينها) والتيارات التي سادت فيها وتتواصل لنفهم تعقيد وجدارة التجربة لم يكن فيها متفرجا بل فاعلا متحولا وممارسا أيضا للنقد الذاتي والمراجعة السياسية المجددة، والقدرة على طرح بدائل لمواجهة مشاكل العالم، إحداها الإيكولوجية أداة بيد الإنسان لإنقاذ العالم من الزوال. لقد أمضى خمسين عاما من حياته لإعداد ما سماه( المنهج أو الطريق[ النهج] في مصنفه الضخم بهذا العنوان أجزاؤه الأربعة الأولى مخصصة عن التعليم والتربية، وانتهى إلى إعلان شبه خيبة من المسار الذي دعا إليه، لأن العالم الغربي أمعن في توحش الرأسمالية، وهيمنة ترويج الاستهلاك، وغياب الرؤية الموجهة لسياسة ذات دليل فكري، إلخ
إنها دروس عميقة وطريفة أيضا يستخلصها مفكر وإنسان خاض قرنا كاملا من الصراعات وولادة الأفكار وصدام الإيديولوجيات والقوى من كل نوع، ومشى طرفا فيها لا متفرجا أو مكتفيا بالتأمل النظري، وكيفما كانت النكسات تحملها، وصمم على تجاوزها، وفي هذا الكتاب شبه الوصية للبشرية ولمن يحبهم، سواء عاش معهم، أو يريد لهم الخير، وضع بيسر وتبسيط رؤية حياة كاملة، لمثقف وباحث وإنسان محب ممتلك لروح شعرية رقراقة تتخلل الوجود، ولا أجد أفضل من اختيار مقتطفات من الفصل الأخير من الكتاب (Mémentos) لنتأملها جميعا، مستمدة من تجارب حياة لا ناسك صومعة فكر وحدها، أقول إن صاحبها استحق الحياة وعرف كيف يشحنها بالمعاني ويغذيها في كل شروق باسم وأفق أمل، والدليل أنه يعلن أن له مشاريع وآمالا لمائويته القادمة، ووجهه وضاح وثغره باسم.
« أن تعيش هو أن تبحر في محيط انعدام اليقينيات، وأنت تتزود في جزر اليقينيات»؛ « الكائن ما هو خير ولا شرير، إنه مركب ومتأرجح»؛ « الإلغاء التام للخطر يؤدي إلى إلغاء كامل للحياة»؛ « الطريق إلى المستقبل يمر عبر العودة إلى الينابيع» وخذوا هذا النذير النبوءة:» ينبغي أن نبحث عن لقاح لسعار البشر، ذلك أننا في قلب الوباء»!
عيد ميلاد سعيد أيها العم موران، معافى وعاشقا وشاعري الروح ومفكرا وإنسانا نحبه ونجله لأنه من بين قلائل يعلمنا لماذا ومن أجل ماذا نحن في هذا العالم.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 07/07/2021