مفكرو الغرب في «مواجهة الحرب» بين الإدانة والأسئلة

أحمد المديني

للحرب الدائرة رحاها في أوكرانيا إثر الهجوم الروسي عديد جبهات، نعم السلاح أشرسها لكن لها أشكالا أخرى عاتية، الاستخبارات والإعلام والبروباغاندا، وثمة جبهة فكرية لنخبة مفكرين تعني رأيا ثقافيا عاما، وتتسم بالعمق والتأمل ما أمكن، بين مناصرة وتنديد ودعوة للحذر. نطلع على وجه لها في العدد الخاص من الشهرية الفرنسية Philosophie magasine خصصته لتيمة «مواجهة الحرب» استفتت فيه فلاسفة من فرنسا وإنجلترا وألمانيا طارحة جملة أسئلة بتصور أن هناك كتلة فكرية شبه موحدة تمثل قيم الغرب.تنطلق الأسئلة من مسلّمة أن الأوروبيين بفئاتهم المختلفة، أحسّوا جسديا بالعدوان الذي ضرب ملايين الأوكرانيين وأضحت حربهم. ومنطوقها مجملا هو: «هل الأوربيون كلهم فعلا كذلك؟ هل هم في حرب ضد بوتين أم روسيا؟ كيف يمكن بناء السلم لتفادي الحرب؟ هل يمكن إيقاف حرب بدون خوضها؟» يليها أسئلة جوهرية :»لماذا نحن الأوروبيين مستعدون للقتال؟ ما الذي يستطيعون تحمّله والتخلي عنه لربح المعركة؟» في تصور المجلة الفلسفية دائما، هل ما تزال الديموقراطيات الغربية قادرة على الوحدة ضد عدو يدوس على قيمها؟ لنضف بأن عقل المجلة وتعليلا للخوض باسم الفلسفة التي هي نقيض للعنف، حسب الفيلسوف إريك فاي، ويراها نقطة انطلاقها وهدفها النهائي، تردّ على هذه الأطروحة بنقيض أن فلسفة ترفض ضرورة التصدي للعنف تكون استسلامية.
بحسب Etienne Klein الفيلسوف والأستاذ في جامعة نانتير فالوسط العلمي في الغرب يعيش هزة إذ فيه من يدعو إلى وقف التعاون مع العلماء الروس للاعتبار الذي نوليه لقيمنا، يقصد الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، ويتساءلون كذلك عن ثمن الدفاع عنها. ونراه لا يتحرّج في تبنّي فكرة العنف مسترجعاً موقفا تاريخيا لأينشتين الذي كان معروفا بنزعته السلمية ودعا صحبا له إلى حمل السلاح بجانب بلجيكا عند غزو النازية. مع عالم الاجتماع والفيلسوف Hartmut Rosa نقف عند نظرة نقدية شمولية لعالمنا يوضع فيها الصراع الحالي وتتمثل في ما يسميه دينامية العالم الحادثة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعلى إثره توسعت العولمة، وترتبت تغيرات مادية كبرى لكن زمنية التغيير السياسية بطيئة لذلك ظهر حاكم مثل ترامب ونمت الشعبوية ونزعة التسلط مقابل الدينامية. اللاّفت عند روزا تحذيرُه مما يسميه الوقوع في فخ «الوحدة المقدسة» ضد بوتين، ومن الخطابات العدائية المصنوعة بهياج ضد هذا» الشرير». إنه إذ يعلن عداءه له يفصح عن قلقه من الطريقة التي يتم بها الرّدّ على العدوان، تكشف عن وحدة زائفة مخالفة فجأة لفرقتهم أمس، والحلّ، يرى، ليس في مضاعفة الميزانيات العسكرية والدفاعية، عند ألمانيا وفرنسا،إذ ستؤول إلى تصدير مزيد من الأسلحة فقط إلى أنظمة لا ديموقراطية. اللافت كذلك عند هارتموت روز، وعداؤه شديد لجيش بوتين، استغرابه حسب قوله من: «الأمريكيين الذين قتلوا من الأهالي في أفغانستان أكثر مما فعل طالبان، والدمار الذي خلفته حروبهم في العراق، وأن التدخل الفرنسي في ليبيا ومالي انتهى إلى وبال». ينتهي الرأي المثالي للفيلسوف الألماني إلى الدعوة لمواجهة الأزمة الحالية بالتشبث بالاقتناعات الديموقراطية ودعم الحريات بدل الانجرار وراء الفخ الذي تنصبه الحرب لتقليد سلوك الخصم.
قريب من هذا الرأي ما تذهب إليه الفيلسوفة الأمريكية Judith Butler أستاذة الأدب المقارن بجامعة بركلي، فهي إذ تعلن عدم حماسها للحرب ولا لسيادة الاستراتيجية العسكرية، وتتمنى الانتصار للأوكرانيين إنما بما لا يصنّفها نصيرةً للحروب ولا يُخضع عقلها لخطط الجنرالات. ترى أن الحلف الأطلسي، يقوم بواجبه، وفي الوقت تحذّر منه، تتهمه بـ «التوسع» و«نقض معاهداته وإشعال التوتر والحروب في المنطقة» والحلّ مناصرة تقرير مصير شعب أوكرانيا. مع الفيزيائي والفيلسوف الفرنسي Etienne Balibar ننتقل إلى أفق أوسع من الرأي والتحليل بدءاً من حتمية اتخاذ الموقف من لدن المفكر رغم ما يتطلبه من تبصّر فهو مواطن مثل الآخرين، وفي الوقت ما يُلزمه به موقعُه من اختلاف وتباعد داخل معسكره لكي يميّز النقاط المخفية ما أكثرها. يُقرّ باليبار بعدالة القضية مع الحذر في استخدام الكلمة لحمولتها التاريخية المشوّشة والانتباه إلى أن العادل هنا يلزم بعد الاعتراف بشرعية القضية، معيار للقانون الدولي، بمناصرتها رغم التحفظ على النتائج المدمرة لأي حرب. إنه اختيار أول. الوجه الثاني يتبلور عند باليبار من وجود وجهين لهذا النزاع: من جهة، هي حرب «شاملة» ضد شعب مهدّد بالزوال من طرف جار أكبر وأقوى، تجرّه حكومتُه إلى مغامرة «أمبريالية»، ومن جهة أخرى، هي حرب «هجينة» نرى فيها هذا الجار وحلفاء متفرقين بمصالح غير متجانسة يواجه أوروبا التي هي الفصيل المتقدم للحلف الأطلسي، أي حلفا عسكريا أمبرياليا أيضا، ينتمى لحقبة ماضية، مواجهة تُعبّأ فيها القوى من كل نوع، وكلما طالت تشابكت خيوطها. لذا تنتهي خلاصات الفيلسوف الفرنسي إلى رأي متشائم على أكثر من صعيد، حربي واستيعادي للمعسكرات القديمة، وإلى توسّع بشري للمجموعة الأوروبية بحكم ملايين اللاجئين المرشحين للبقاء، مُبديا تخوّفه خاصة من ولادة نزعة كراهية لروسيا (روسو فوبيا) لدى الرأي العام تمتد إلى مقاطعة الثقافة والفنانين كشيء مستهجن جدا. وأخيرا، يزيح باليبار من أفق تحليله تعقيدات النظر الفلسفي ليلتزم بالاستعجالي، قصدُه دعم مطلق لما اعتبره من البدء قضية عادلة.
لا يكفي عند فردريك غروس، الأستاذ بمعهد العلوم السياسية بباريس، عدالة قضية، إذ السلام في النهاية هو أفق أيّ حرب، إما بالتفاوض، أو الهزيمة العسكرية، أو تغيير من الداخل، وهذا رهان «حلمي» ضد النظام الروسي يتردد كثيرا كانتظار معجزة. إنما لا يفوتنا في خاتمة قراءتنا للعقل الغربي تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا: أن هناك ما يشبه الوعي الشقي تجاه المركزية الأوربية لدى بعض المفكرين يستغربون احتضان ملايين اللاجئين الأوكرانيين وحملة التضامن القصوى من أوروبا الغربية فيما أغلقت حدودها وتواصل في وجه لاجئين معذبين من الأرض، هي حقيقة صاعقة تكشف عن غرب يَكيل قيمه ومبادئه بمكيالين. الملاحظة الثانية، أن هذا العقل العقلاني الذي يؤمن بالنقيض والجدل والتركيب يُقصي أيّ فكر واختلاف آخر في تحليله ويغيّبه، فيصبح الرأي والنقاش عندئذ صدى لصوت واحد؛ والحرب بعد عوان!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 20/04/2022