من أجل بقاء الموضوع، وللحِفاظ على شرط الحرية

أحمد المديني

في مجال العمل السياسي، كذلك في مضمار النشاط الاقتصادي والمالي، يمكن لك أن تنتهز وبوسعك أن تقفز فوق الحواجز وقتاً أو موسمًا، لتضع على رأسك قاووقًا، وترى بعينيك وفي مدى خيالك ولاءات وآفاقًا، وقد تضرب الضّربة، فتصخَبُ حنجرتُك بالكلام المنفوخ والمعلّب، تتورّم قفاك لحما ويتكوّر بطنك. إنك ملكتّ واتّسعت والكلّ خلقًا وشيئًا طوْعَ بنانك، وتمضي كلما امتلأتَ زدت نهمًا، وطالما صرخوا منك غضبًا ومقتًا لك انتفخت صممًا؛ يمكن أن يحدث هذا بأن تُفلح وتغنم وكثيراً ما يتكرر، إنما ثق هو عابر، وكما أن التاريخ يرسم لنا سجلاً من النابهين والأذكياء، فهو يعُجُّ بأسماء الأغبياء، يدرجون أنفسهم في عداد الأوائل بينما هم طابور من البلهاء، لو عبروا خلف المرآة لرأوا عوراتهم والجمهور إذ يصفق يضحك عليهم ببكاء!
في مجال المعرفة والإبداع، حيث يُمتحن النبوغ ويُشحذ بمَبْرَد الذكاء، ويشتعل لهبُ الموهبة ينير دهاليز الأرواح ويشقّ دروب الغد بعزيمة ومَضاء، فإن حبلَ الكذب مهما طال قصير، والمنتحلون، الدخلاء، الوسطاء، مزوّرو العملة يسقطون سريعًا وتباعًا في الطريق، العملة الرديئة تُفتضح في آخر المطاف، لأن تجارها أنفسهم رغم معاملاتهم بالغشّ وشاحب الأطياف، حريصون نوعًا ما على بقاء السوق، ومسبقًا يبيعون ويشرون في أنعامٍ مصيرها حتمًا إلى نُفوق. في مجال الفكر والموهبة الجوهرِ لا يصمد اللون الرمادي بين الأبيض والأسود طويلا، يتمايل، تتغنج، تضع باروكة، ترقص لكن الورم سارٍ في الجسد لا يفيد معه مدد، لا دوام للملفّق.
واهمون ومغفلون من يظنون أنهم يواصلون العيش بالزور، وأنهم مهما غضّت السماء الطرف، باقون أبدا الغش والاحتيال والمتاجرة في السلف لهم سقف، وما همّهم بعد صفقاتٌ ومسكوكاتٌ ركيكة غدٌ ولا خلَف. كلا، ليسوا عميانًا بتاتًا، فهم يرون الحشائش السّامة تتفشّى وتَعُدُّ أخضرَها محميّا بروادعها، والآخرون تحت بين المخفَر وتحت المِجهر جراثيمُ وعناصرُ لحقل تجاربَ أخرى ستُدِرّ مزيد الربح، فإن عقمت تُجرى عليكم تجاربُ أخرى، أجيالٌ في العالم تتلو أجيالاً، تريد فرصة عيش لا أكثر بأقلّ خسارةٍ وبصيصِ أمل إن لم تحاصرها فلولُهم تترصّدها عيونهم أضحت عاليةً في السماء تلالاً وجبالاً؛ كلّا، ما هم عميان، إنما تعمَى القلوب التي في الصدور!
أظن أني خرجت عن الموضوع. في مستهل الكتابة أفكّر في أمر، تظلّلني غيمةٌ أو أركب سحابةَ صورة، فأسترخي فوقها، يستهويني شكلُها وتستغرقني ألوانُها، أحيانًا أتخيلها حلوى فأقرّب فمي منها لأتلذذ بها فتُطبق شفتاي على الهواء، الفراغ الملوّن عذوبتُه على طرف لساني، الموضوع فلت، والشيء انفلت، قد هزّا كياني، وها أنذا أبقى عائمًا، كلماتي على أُهبة القول، وبحنجرتي صرخةٌ محبوسة منذ الولادة، علّقوا على صدره قلادة، مكافأةً له أنه نسيَ اسمَه وكفَّ عن الشرح والتأويل وأيِّ كلام زيادة. مشكلتي مختلفة، أنا أعرف الموضوع جيدًا ولكن ربَّكم الأعلى نهاني عن الغواية، أخشى إن قلته أغرق في غياهب الجُبّ، والجُبّ عبادة.
لأستأنف الخيط، كما ينبغي للكاتب أن يفعل. يُمسك الخيطَ بيدٍ، وبأخرى ليمررِّه في الإبرة، مع فارق كبير جدا أن خيطه بحجم جمل وجبل وزوبعةِ إعصار، يقف قلقاً مؤقتاً أمام إعجاز»(…) حتى يلج الجملُ في سُمّ الخياط»[ الأعراف 40] لكنه يستأنف، ما شأنُه أن تُفتح له أبوابُ السماء ولكن قيعان الأرض. طويلا رقّعتُ، رتّقتُ أطراف البلاد، المهلهلَ من أفكار ومشاعرِ العباد، لم يفتني تنغيمُ صهيل الجياد، بعد أن اخترقها النهيقُ وشقّ النباحُ والطنين القرطاسَ ودمَ المداد. مديداً، سديداً ومتهوِّراً في آن، قلت كتبتُ شدوتُ بما يقال صرخت أحيانًا حتى من ذُرى المُحال، والموضوع دائمًا في البال، والآن، خيطي وإبرتي يتداخلان، اتّسع الخرق على رتقك يا فلان!
كان هذا في سالف العصر والأوان. مرت عندنا أجيالٌ فهمت أن الكتابة وعيٌ من أجل رسالة والتزام، وأن اللغة والبلاغة والخيال وهي جسدُ وصهوة الأدب ، مهما سمت وتجلّت وقشَبت، عناصرُ وأدوات لفعل أداءٍ بنصَب. ما ألزمنا ربٌّ ولا حزبٌ بشيء، هو إحساس جرى في الدم مجرى الإيمان، وإلا ما معنى حبّ الأوطان. من يغرغرون اليوم بأن الإيديولوجيا كانت مهيمنةً لم يتنفسوا دقيقة في هواء قمعٍ ولا قبعوا في هلاك زنزانة، وأننا ركبناها لنعلو نحن من أنجبناهم، علَونا بأدب وفكر وإبداع بنبتِه أكلوا ومن ضرعه سُقوا، ثم يتنطعون أنهم خارج الزمان المكان الإيديولوجيا ويتمّسحون بالأعتاب مغرباً ومشرقا يتسوّلون ويسألون شِروي نقير لطبع وُريقات.
يَقرَعُني بصُداع الرأس هذا كاتبٌ ومناضلٌ في الأدب سيّدٌ لجميع الأزمان، ولم يخطر بباله ولا ورَد في تصنيف الجاحظ أن سيظهر ويطنّ هذا النوع من الذبّان(يراجَع الحيوان، والمزرعة). أعني جورج أورويل(1903ـ1950). اعتنق الحرية عقيدةً والاشتراكية مذهبًا وناهض الظلم والدكتاتورية العمياءَ التي حاصرت الإنسان تراقب أفعاله وتخنق أحلامه فأبدع روايته العظيمة بلا نظير»1984»( سنة 1949) وحارب ضد الفاشية في الميدان، وصارت أعمالُه وأخلاقُه رمزا لكاتب يُعلي قيم الحرية ومناهضة الاستبداد في كل مكان من العالم، وفي الوقت هو فنّان. لا تزال روايته يعادُ طبعها وصيتُه يتردد رغم شيوع مزعم الديموقراطية، أورويل هو الكاتب.
نعم، العالم الأوريولي لم يمت، فغِيلانُه وأشباحه ما زالت تطوف والعدسات منصوبةٌ مسلطة في العلن وعلى الأدمغة والقلوب، وفيما يتراجع الفكر الحرّ الذي وهَب أورويل حياته كاملة من أجله بلا مساومة في العالم الغربي، فإنه يكاد ينقرض في العالم الثالث ومنه العربي، خلا عناوين فضفاضة وشعارات، هي شجيرات تخفي الغابة الدّغلاء، ثمة أحراشٌ ومسالكُ موحشةٌ وقطاعُ طرق من كل صنف، بها حدائقُ يلهو فيها صبية الحي بمزمار الشعر والنثر وهم في خيلاء، وفوقهم جميعا طبقاتُ حديد، فوق صدورنا جنادل، تغلبنا، نخسر معركة نعم، هي حرب عوان بين غيلان الغابة والعنادل. حافظوا على الموضوع والنغم ليعلموا أننا أبدا لا ننهزم.
شرطه الضروري، العمل بقول صاحب»Animal Farm»(مزرعة الحيوانات، 1945):» لا معنى للحديث عن الحرية إلا بشرط أن تكون حرية َأن تقول للناس ما لا يرغبون في سماعه».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 05/07/2023

التعليقات مغلقة.