من العاصمة .. كورونا”… الجرح المفتوح ودرس الإنسانية المؤجل

خلف الفيروس اللعين “كورونا”، أو ما يشبه فقدان المناعة المكتسبة الذي ضرب العالم من أقصاه إلى أقصاه، ببلدنا، ما يزيد عن 16 ألف شهيد، وأزيد من مليون ونصف المليون مصاب. كانت فعلاً محنة عالمية وجرحاً إنسانياً كاد يغلق البر والبحر والجو، وحوصرت مليارات البشر في أماكنهم دون سند أو عون، حتى خُيّل للبعض أننا على وشك الفناء ونهاية التجربة الإنسانية على كوكب الأرض.
ومرت الجائحة، وبدأ العالم يتعافى رويداً رويداً، وما زال التعافي مستمراً إلى اليوم. لكن ما لم يتعافَ منه العالم، وربما لن يتعافى سريعاً، هو الجرح النفسي العميق الذي خلفته تلك التجربة؛ فقد هزّت الثقة بين الناس، وأعادت رسم حدود العلاقات الإنسانية، وغيّرت سلوكيات المجتمعات في العمل والتعليم والصحة، وأثرت على الاقتصاديات بشكل سيبقى أثره لسنوات، وكشفت هشاشة الأنظمة الصحية، وأظهرت أن التضامن الإنساني ما زال رهين المصالح والحسابات السياسية.
ورمزياً، لم نتخذ حتى الآن أي قرار بتعويض عائلات الذين فقدوا أرواحهم، للتخفيف عن الأسر المكلومة. أسر انفرط عقدها إلى الأبد، وبقي أطفال وشيوخ وكبار سن بلا معيل ولا كفيل، في ظل وضع ملتبس لما يسمى “الدولة الاجتماعية”، حيث لم تفهم الحكومة من هذا المفهوم سوى ترديد الشعارات، دون أن تدرك أن الدولة الاجتماعية تقف على النقيض من منطق الربح في قضايا الصحة والتعليم والتنمية، وأن الاستثمار في الإنسان هو الغاية قبل العائد المادي. لكن ما حدث كان العكس تماماً؛ فقد تحولت كل الأوراش الكبرى إلى غنيمة بيد “الفَراقشِيّة” في كل القطاعات، من الأمن الغذائي إلى الصحة، ومن التعليم إلى باقي مفاصل الحياة.
هذه التجربة المريرة تحتاج منا في المغرب مرة أخرى رفع القبعة للأطقم الطبية والمصالح الأمنية والسلطات المحلية، ممن ظلوا في الميدان حرصاً على تنفيذ بروتوكولات صحية كانت قاسية جداً، حيث منعت التجارة والبيع والتنقل إلا بتراخيص تتطلب جهداً، ولم يكن الأمر حينها يسيراً، والفيروس يستبق الجميع بل تغلب علينا جميعاً. وكان الإعلام بدوره في قلب المعركة، وقدم شهداء الكلمة والصوت والخط، وتبدلت أشياء كثيرة. وكما قلت، يستحق الأمر وضع تمثال لتخليد هذه المأساة، ولنجعل من يوم تسجيل أول حالة لحظة للتأمل، نقف فيها دقيقة صمت وترحم على الذين فقدناهم، والغاية أن نستخلص العبر ونتخذ كل الاحتياطات الاقتصادية والطبية وفي كل المجالات، لأن فائض ما ننتجه من خيرات كشعب هو ذخيرة للأجيال القادمة، وليس غنيمة أو مكسباً للبعض.
وربما “كورونا” التي ما زالت إلى اليوم ندوبها ظاهرة على العالم، رغم محاولات التناسي أو النسيان، وما زالت مجهولة المصدر، تدق ناقوس الخطر للإنسانية جمعاء: كفى من تدمير الطبيعة على جميع المستويات، فمصير البشرية واحد، نكتبه جميعاً ونكون ضحيته جميعاً، رغم اختلاف مساهماتنا. نعم، نحن ندمر بأيدينا كل مظاهر إنسانيتنا، ونجني على الحق المستمر في الحياة.