من العاصمة .. لا لشيطنة الأطباء من طرف الحكومة

محمد الطالبي talbipress@gmail.com

رغم أن الجميع يعرف أعطاب المنظومة الصحية في بلادنا، أعطاب هيكلية ومزمنة، ورغم أن الناس صرخوا حتى البكاء والعويل واللطم، فإن الأجوبة الرسمية ما زالت تأتي ببرود فجّ واستهزاء سافر بمعاناة المواطنين، وكأن الضحك على ذقونهم أصبح سياسة عامة لا تفرّق بين كبير وصغير، رجل أو امرأة، طفل أو مسن.
المستشفيات العمومية تحولت إلى ضيعات تابعة للشركات الخاصة، وأضحى الحراس والأعوان هم الآمرون الناهون داخل فضاءات كان يُفترض أن تكون تابعة للدولة. الأدوية غائبة، والأطر الطبية أو ما تبقى منها بين هجرة نحو الخارج أو انسحاب إلى القطاع الخاص، تاركين فراغاً مخيفاً، أمام عجز حكومي صارخ عن وقف النزيف بإجراءات حقيقية.
المشهد الصادم لم يعد يُخفي نفسه: وفيات يومية في سيارات متهالكة تُسمى “إسعاف” ولا تحمل من المعنى إلا الاسم، وفيات أطفال ونساء حوامل في صمت مروع، ومواعيد طبية تصل إلى سنة وأكثر، في علامة دامغة على انهيار كامل لمرفق عمومي يُفترض أنه شريان حياة وضمانة لحق دستوري هو الحق في الصحة.
الحقيقة أن هذه الممارسات تدفع الفقراء دفعاً نحو القطاع الخاص مرغمين، ومع ما يملكون من إمكانيات محدودة، أصبح الوضع هدية ثمينة للوبيات المصحات الخاصة التي تستفيد من كعكة الحماية الاجتماعية. الدولة بمستشفياتها ومواردها البشرية الصامدة لا تستطيع المنافسة أمام سوء تدبير إداري، وعمليات إهمال متعمدة، وانعدام للنظافة والصيانة. حتى التجهيزات الطبية التي يمكن أن تدر مداخيل ضخمة تُترك معطلة “بفعل فاعل”، وكأن هناك من يصرّ على دفع المواطنين نحو أبواب القطاع الخاص.
الوزير نفسه عاجز، وزياراته الميدانية أو ما يُسمى بالزيارات لم تعد سوى عمليات استعراضية للتصوير الإعلامي لا غير، ومحاولات بائسة لكسر شوكة ما تبقى من “ملائكة الرحمة”. بينما الحقيقة واضحة ومعلنة: خصاص مهول يقدَّر بأزيد من 30 ألف طبيب وطبيبة، وآلاف آخرين من الأطر التمريضية والتقنية. فبدل أن يتجه الوزير وحكومته إلى معالجة صلب الإشكال، يكتفون بإهانة أصحاب قسم أبقراط أمام الرأي العام، وكأن الإذلال سياسة صحية معتمدة بدل الحلول الجذرية.
الأدهى من ذلك أن الحكومة اختارت سياسة “شيطنة الأطباء” وتحميلهم كل الوزر، في حين أن المسؤولية السياسية والإدارية تقع على من عجز عن التخطيط والتدبير لعقود. كيف يمكن لقطاع صحي أن ينهض بينما يُدبَّر بقرارات مرتجلة، وعقلية انتقامية من الأطر التي يفترض أن تكون سنداً لا عدواً؟
لقد صار المواطنون شهوداً على انهيار بطيء ومقصود لقطاع الصحة العمومية. المستشفيات تُدار بالعشوائية، التجهيزات تُعطّل عمداً، الموارد البشرية تُستنزف بلا تعويض، والزيارات الرسمية تتحول إلى عروض مسرحية رديئة. النتيجة واحدة: تفكيك القطاع العمومي لصالح مصحات خاصة تحصد الأرباح من جيوب البسطاء تحت غطاء “الإصلاح” و”الحماية الاجتماعية”.
إنها جريمة مكتملة الأركان في حق المغاربة، تُنفذ ببطء ولكن بثبات، والضحايا يومياً هم الأطفال والنساء والفقراء. والوزير، بدل مواجهة الحقيقة، يكتفي بالتصريحات الجوفاء والاستعراضات الإعلامية.
اليوم لم يعد مقبولاً أن يظل الوضع رهينة العجز والتلاعب. إن استمرار هذه السياسات هو تواطؤ صريح ضد حق دستوري أصيل هو الحق في الصحة. الوزير والحكومة معاً يتحملان المسؤولية السياسية والأخلاقية والقانونية عن ما يحدث. والمطلوب ليس تصريحات ولا وعوداً فارغة، بل محاسبة حقيقية تعيد الاعتبار للقطاع العمومي وتجعل الصحة حقاً لا امتيازاً ولا سلعة تباع وتشترى.

الكاتب : محمد الطالبي talbipress@gmail.com - بتاريخ : 27/09/2025