من العولمة إلى الكوكبية

مصطفى خلال

 

ينبغي الاعتراف أن مفاهيم ومقولات مثل «الحرية»، «الثورة»، «التحرر»، «الاستقلال»، «تقرير مصير الشعوب»، «الايدولوجيا»، «الاشتراكية»، «الاستعمار»، «الاستعمار الجديد» و«الامبريالية»… جميعها مفاهيم، وإن كانت ما تزال تحافظ على وظيفيتها، فإنها انزوت إلى الوراء وما عادت توظف إلا نادرا في «النظر» لدى المفكرين، سواء في الفكر المحض عموما أو في الفكر الفلسفي خصوصا، وفي «التحليل» لدى السياسيين في الفكر السياسي على نحو أعم.
راحت تحتل ساحة الفكر والممارسة معا مفاهيم ومقولات «العولمة» أو«الغلوباليزاسيون» و«الإيكولوجية» المرتبطة ارتباطا وثيقا بل وعضويا ب«الكوكبية»، فضلا عن «التنمية» و’’شقيقتها’’ «التنمية المستدامة» و«الحكامة» و«الحرب على الإرهاب» و«صراع الحضارات»، «الهجرة غير الشرعية»، و«الرقمنة» و«السوشيل – ميديا» ….
واذا أردنا الإيجاز بخصوص المفهومين اللذين يهماننا في هذه المقالة الصحفية، فإننا نلاحظ لدى البعض خلطا بين «العولمة» و«الكوكبية». فنحن نرى أن المزج بينهما ليس صحيحا.
تعني «العولمة» وهي التي نخصص لها حديثنا هذا، تعني كما هو معروف على نطاق واسع حتى غدا دارجا ما يمكن تلخيصه في عبارة التبادل الحر والذي يشمل كل البضائع المسموح بالمتاجرة فيها. ويشمل هذا بالطبع حرية حركة الرساميل وحرية تنقل الأشخاص. ويستتبع هذا بالضرورة حرية النشاط التجاري الذي يضم الخدمات مثلما يشمل الانتقال الحر للتقنيات بجميع أنماطها، بل وللمعلومة أيضا. واذا كان مسلما به أن تشمل الحرية كل العناصر على النحو الذي رتبناها به فان عنصري «التقنية» و«المعلومة» لا تطبق بخصوصهما نفس قواعد الصرامة المعهودة . فالتقنيات لا تنتقل إلا إذا كانت لا تشكل منافسة حقيقية قد تزاحم مخترعها الأول. والمعلومة لا يسمح بانتشارها إلا إذا كانت تخدم المصلحة المقصورة على مصدرها. وهو ما يعني أن «العولمة» لا تعرف ما يمكن تسميته ب«عدالة» ما. بل ان العولمة تعني، وفي ظل حرية التنقل لكل ما ذكرناه، الحرب التجارية التي لا ترحم. ولنا في هذا المثال أو قل النموذج الأبرز والذي نتابعه في الصراع القوي والحاد بين القوتين التجاريتين العظميين الأقوى في العالم والأشد هيمنة وهما الولايات المتحدة الأمريكية والصين.. واللذان تجري بينهما اليوم فصول جديدة تسترجع ما كان يسمى بحق «الحرب الباردة» على عهد الاتحاد السوفييتي، في مواجهته مع الولايات المتحدة كامبريالية استحواذية تدافع عن قيم السوق، مهما بلغ من توحش، ومهما انطبع بكل أصناف التغول الشامل، والاتحاد السوفييتي كمنظومة مناهضة لها، شيوعية، تزعم الدفاع عن الانسانية المستضعفة.
والحق أن العولمة التي سميت أيضا بالنظام العالمي الجديد، ليست سوى استمرار للنظام العالمي الذي أنشأه واستفاد منه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية. وهذا موضوع يليق لحديث آخر. فقد حافظت ورسخت بل وعمقت الفروق الهائلة بين الدول القوية المتحكمة في الاقتصاد العالمي والدول الفقيرة التي وجدت نفسها في حال انتقلت فيها من وضع استعمار مباشر إلى وضع وصاية تمارس بالضغط وبالابتزاز والمساومة وبقهر مؤسسات دولية تشتغل بنفس معايير قانون الأقوى .
«العولمة» هي في النهاية حرب تجارية بين الكبار من جهة أولى، وقهر للضعفاء من جهة ثانية، تمارس بشراسة، بدون مبادىء باستثناء قواعد المنافسة التجارية، وبدون أخلاق – ومتى كانت هناك أخلاق في العلاقة بين الأقوياء والمستضعفين.
يمكن هكذا أن نقول، بدون المخاطرة بالوقوع في الخطأ، إن العولمة هي ترسيخ لمبدا استحواذي قديم، يعود إلى حركة القرن التاسع عشر الذي ميزته الحركات الاستعمارية. ولأنه قدر الانسانية الجديد فإنه لا مهرب منه. غير أنه يمكن التخفيف من وطأة هذا القدر الضاغط بتنظيم سياسي جهوي واحد. فلقد واجهت الشعوب المستضعفة حركة الاستعمار وقوى الامبريالية القديمة بحركات تحرر وطنية سلمية حينا وعنيفة حينا آخر . غير أنه ما كان ممكنا الانتصار على الاستعمارات لولا تكتل حركات التحرر الوطني في تنظيمات جهوية وعالمية مارست من خلالها تضامنها وتعاضدها فكانت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا كمقاومات محلية تخاض من طرف كل شعب خضع للاستعمار، وكمقاومات جهوية ثم عالمية متضامنة. إنه ذات السبيل المنشود اليوم. فعلى المستوى المحلي لا يمكن التخفيف من غلبة قهر العولمة المستبدة اقتصاديا وتجاريا الا بالتنمية المحلية الجادة من جهة، وبالتكتل الجهوي القاري بين البلدان النامية والفقيرة والمستضعفة.
ذلك هو شأن «العولمة»، ويبقى شأن «الكوكبية»، وهو ما سنواجهه في مقالتنا القادمة.

الكاتب : مصطفى خلال - بتاريخ : 09/11/2021