موائدنا…  تاريخنا المتحول 

فريدة بوفتاس

يعتبر الغذاء من بين أهم ما يحفظ للإنسان بقاءه واستمراره، بوصفه كائنا حيا.ولقد كلفه هذا الدافع الغريزي الكثير خلال تواجده على هذه الأرض، من خلال صراعه الدائم مع الطبيعة كي يكون سيدا عليها، وأيضا عبر الصراع والحروب الدائرة بين أقوام، ثقافات وحضارات عديدة مرت من هنا وأخرى لا تزال .
هذا النزوع للبقاء، وهذا السعي الدائم لتحصيل الغذاء، جعله وهو يغادر حالة الطبيعة في تدرج إلى حال أكثر تقدما واكتمالا، وأيضا عن طريق الشغل يتطور فكريا وثقافيا، ويتحول من مجرد كائن يقتات كغيره من الكائنات الأخرى على الصيد والثمار..إلى كائن مبدع، صانع، وإلى فرد اجتماعي يمتلك رأسمالا ماديا ورمزيا كبيرا ارتبط بهذا العنصر الحيوي (الغذاء) متشكلا من طقوس وعادات، فضاءات، أدوات وٱلات كامتداد لجسمه، وموائد كحيز تحدد بالمكان، وتمدد في الزمان يعرض من خلاله، وفي تحول دائم فنونه، وأذواقه، قيمه، أحزانه، أفراحه وأيضا من خلاله ترتسم معالم انتصاراته وخيباته .
فهل يعني هذا أن للموائد تواريخ وحكايات، وفترات صمت أوصخب؟
كيف يمكن أن تكون الموائد مجالا تعبر منه الذوات الإنسانية من مجرد كائنات ذات حاجيات، إلى أشخاص ذوي حقوق على رأسها الكرامة ؟
استطاع الإنسان وهو الذات العاقلة عبر تاريخه وفي ظل تباين الأزمنة والثقافات، أن يخلف لنا ٱثارا عديدة كانت تحمل من الدلالات الجلية وغير الواضحة، ما يسمح نسبيا بفهمه ومحاولة تطويقه كموضوع ما يفتأ يتعنت أمام الباحثين، وذلك لتعقده وتداخل مكوناته .
وكان من ٱثاره الباذخة أسرارا، موائده التي جلس إليها، في عوالم متعارضة، إذ قد تكون متعالية أحيانا عن ذاته الفانية، أو محايثة لها في أغلب الأحايين .
موائد لبسها من الشرف ما سقط عن غيرها، أو لحقها من اليسر والبذخ ما ضن به على ما عداها.
فهذه كتب التاريخ مثلا تحدثنا عن إيوان كسرى، وعن موائده الغرائبية، في حين نقل إلينا النص الديني ما يدخل في مجال الإعجاز، حين طلب الحواريون من النبي عيسى بن مريم أن ينزل عليهم من السماء مائدة، كي يطمئنوا في إيمانهم، وعليه، وكان أن نزلت ليشفى بها بعد أن يأكل منها كل محتاج مريض، وتكون بذلك دليلا قاطعا على صدق رسالة .
كانت المائدة أيضا حيزا لا يليق بمن يخون عيسى( المقصود هنا يهودا )، ويشاركه الطعام في نفس الوقت، كانت المائدة فقط مجالا يشترك فيه الصادقون في الإيمان والسريرة.
أما في النص القرٱني، فنجد أن محور سورة المائدة، حسب المفسرين، هو الوفاء بالعهود والمواثيق، عهود بين الخلق والخالق، ترسم مسالك للمسلم الذي يجب عليه الوفاء بها، كما تضمنت مقاصد الشريعة، ( حفظ الدين، العقل، المال، النفس ،العرض)، ومن بين ماورد فيها أيضا الدعوة إلى أكل الطيبات من الطعام  التي هي ضرورات الحياة  “يا أيها الذين ٱمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد.”
المائدة لم يخل منها مجال، ففي ساحة الفكر والإبداع، نجد الثقافة اليونانية، وعلى الخصوص الفلسفة الأفلاطونية تحمل إلينا محاورة بعنوان “المأدبة” (القرن الرابع قبل الميلاد)، كانت حفلا ( وليمة ) أقيمت في بيت الشاعر اغاثون حضرها الشعراء والفلاسفة حيث كان الحديث يدور حول ماهية الحب ( ايروس) وغاياته وضرورته .
تقام موائد مستديرة للنقاش، وتتعدد وقد تتحول في بعض الأحيان إلى حديث عقيم عليه أن يغادر الشكل الدائري ويأخذ مسارا ٱخر متقدما حتى لا يكون كتاريخ دائري، وحتى لا يسقط في الثبات والجمود والنزعة الاستعراضية المهووسة بعظمة عليلة.
المائدة وهي تدخل مجال المال والأعمال، حيث المضاربات والمساومات وحتى الاتفاقات الخفية ال”الخبيثة “التي تمر من تحت الموائد، وكأن للموائد فوق /تحت، لا يعلمه إلا من كان مدركا للدلالة الحقيقية لظرف المكان حسب النحاة، أما الجاهل بذلك فسيظل غريبا، تائها بين المنزلتين.
في الثقافة المغربية الشعبية، هناك حديث عن مسامير المائدة ،ويقصد بهم /ن من يحيطون بذوي القرار، ويجعلونهم يتخذون قرارات غير سليمة وفي غير صالح العامة من الناس، في حين أنها تخدم مصالحهم وحدهم .
أما مجالا السياسة والاقتصاد، وهما المحركان الأساسان لكل ما يجري في هذا العالم، فتجد الموائد تنصب بتفنن وحذق بالغين وسبق تخطيط .
أو ليس عليها وحولها، سيقرر مصير الملايين من المسوسين ؟
أوليس عليها سيسمح لهم/ن، أن ينعموا بالحياة والاستمرار في البقاء، في مؤتمرات عن المناخ تنسج خيوط فناء قادم ؟
أوليس عليها، في دول تغيب فيها الحريات، ويقودها طغاة بزيهم العسكري، حيث التخطيط لاستمرار إشعال فتيل الحروب، وهم بهذا يؤجلون فرصة جلوس ضحاياهم إلى موائد العيد .
أوليس عليها يجلس المنتخبون الغريبون عن صناديق الاقتراع، وعن إرادات الشعب، ليضعوا “برامجا” سوريالية، تخفي أطماعهم /ن البئيسة التي ستجعل موائدهم فاخرة، وموائد ضحاياهم تشكو من الهزال .
المائدة إن هي خلت من ما يطيب من أكل يحفظ للقوم حياتهم ،مقامهم عزتهم وكرامتهم …،تصبح ناقوس خطر يستدعي حضور البديهة وحسن الإصغاء إلى كل ما يدور حول الموائد العجاف الحالمة بموائد السنوات السمان، والتي ربما في غياب البطنة قد تلغي الفطنة والعياذ بالله.

الكاتب : فريدة بوفتاس - بتاريخ : 21/02/2023