ميزانية أكتوبر.. من وثيقة مالية إلى أداة انتخابية!

نورالدين زوبدي

من المفترض أن تُشكّل دورات أكتوبر محطة مؤسساتية عادية داخل أجندة المجالس المنتخبة، تُخصص لمناقشة وتبني الميزانيات السنوية، وضبط أولويات الإنفاق في إطار الاختصاصات المحلية. غير أن ما يحصل على أرض الواقع في عدد من الجماعات الترابية يحوّل هذه الدورات إلى واجهة أخرى لصراع انتخابي مبكر، تُستعمل فيه الميزانية كوسيلة للضغط، والمناورة، واستمالة الولاءات.
لقد أصبح واضحًا أن بعض رؤساء المجالس، خصوصًا أولئك الذين يعتزمون الترشح للاستحقاقات المقبلة، يشرعون منذ أسابيع قبل موعد دورة أكتوبر، في تنظيم لقاءات مع جمعيات محلية وأندية رياضية، يعِدون فيها برفع قيمة المنح أو تخصيص دعم جديد، لم يكن واردًا في البرمجة الأصلية، بل تمت إضافته لاحقًا لخدمة أهداف انتخابوية خالصة. يُستعمل في هذه اللقاءات خطاب مُنمّق، يتحدث عن «دعم العمل الجمعوي» و»تشجيع الرياضة»، لكنه في العمق ينطوي على عرض مشروط: الدعم مقابل الولاء، والمنحة مقابل الانخراط في الحملة الانتخابية.
وفي مقابل هذه الإغراءات، لا تتردد بعض المجالس في إقصاء جمعيات وأندية أخرى، فقط لأنها رفضت الدخول في هذا المنطق الانتهازي، أو تمسكت بمسافة نقدية من مدبري المجالس المحلية . وغالبًا ما يتم تغليف هذا الإقصاء بمبررات إدارية، مثل «عدم استكمال الملف»، أو «غياب تقارير الأنشطة»، أو حتى «ضعف الأثر المجتمعي»، وهي كلها مبررات لا تُستخدم إلا حين يكون الموقف من المجلس سلبيًا أو غير متعاون انتخابيًا.
هذه الممارسات تمثل انحرافًا صريحًا عن الأهداف التنموية الحقيقية للدعم العمومي، وتمس بشكل مباشر بمبادئ العدالة، والشفافية، وتكافؤ الفرص. إن الغاية من دعم الجمعيات ليس شراء الأصوات، بل تمكين المجتمع المدني من لعب أدواره الدستورية في التأطير والتنمية والمشاركة. وإذا تحوّل هذا الدعم إلى ريع انتخابي، فإنه يفقد جوهره، ويُحوّل الفعل الجمعوي إلى أداة تابعة تُستعمل ثم تُرمى.
صحيح أن التشريعات التنظيمية تُقرّ مبدأ التدبير الحر كأحد ركائز الجهوية واللامركزية، وتمنح المجالس سلطة واسعة في برمجة ميزانياتها، وتوزيع الاعتمادات حسب أولوياتها، غير أن هذا التدبير الحر ليس شيكًا على بياض. فحين يُسجَّل تحوير في الأهداف، واستعمال منح الجمعيات كوسيلة انتخابية، فإن الأمر يستوجب وقفة مؤسساتية صارمة. التدبير الحر لا يعني التصرف خارج منطق المصلحة العامة، بل يفترض ممارسة المسؤولية في إطار من الشفافية والرقابة والعدالة.
الأخطر من ذلك أن هذه الانحرافات في استعمال الميزانية لا تقتصر على الدعم الجمعوي فقط، بل تمتد إلى مجالات أخرى لا تقل خطورة. إذ لوحظ، مع اقتراب الانتخابات، الشروع في توظيف أعوان عرضيين بشكل مفاجئ، تحت غطاء «حاجيات المرافق»، في حين أن الهدف الحقيقي في بعض الحالات هو توسيع شبكة الزبونية الانتخابية من خلال منح مناصب مؤقتة بمقابل الدعم السياسي.
كما بدأ تنفيذ مشاريع قديمة، مبرمجة منذ سنوات، ظلت حبيسة الرفوف لاعتبارات «تقنية» أو «مالية»، ثم فجأة تظهر على السطح مع اقتراب الاستحقاقات، فقط ليتم توظيفها كأوراق انتخابية رابحة توحي بفعالية مزعومة ونجاح متأخر.
إن ما يحصل اليوم لا يمكن اعتباره مجرد اجتهاد خاطئ أو تصرف فردي. نحن أمام استغلال هيكلي للمال العام لأغراض انتخابية، عبر تضخيم المنح، أو إقصاء المخالفين، أو تشغيل المؤقتين، أو تسريع إنجاز المشاريع، كلها مؤشرات على أن العملية الانتخابية بدأت من داخل دورة أكتوبر، لا من لحظة انطلاق الحملة الرسمية.
وإذا كانت وزارة الداخلية قد دقّت ناقوس الخطر في أكثر من مناسبة بشأن استعمال الآليات الجماعية لأغراض انتخابية، فإن من باب أولى أن تشمل هذه المراقبة برمجة المنح والدعم العمومي، وأن تُخضعها لآليات افتحاص دقيقة، ومساءلة إدارية صارمة، حتى لا تتحول الميزانيات إلى صناديق انتخابية مفتوحة.
إن تحويل ميزانية الجماعة إلى وسيلة لإغراء الجمعيات أو معاقبتها، لا يُهدد فقط صورة العمل الجماعي، بل يضرب في العمق الثقة في المؤسسات، ويُفرغ الانتخابات من مضمونها الديمقراطي. فبدل التنافس حول البرامج والكفاءات، يصبح التنافس حول من يملك مفاتيح الدعم، ومن يستطيع إغراء أو تهديد الفاعلين المحليين.
لهذا، فإن التصدي لهذا الانحراف لا يمكن أن يتم فقط عبر التنديد أو الانتقاد، بل يجب أن يُترجم إلى إجراءات عملية، تبدأ بمراجعة مساطر توزيع الدعم، وإخضاعها لمعايير موضوعية واضحة ومعلنة، ووضع آليات للتظلم، وفرض رقابة استباقية على كل محاولة لاستغلال المال العام انتخابيًا.
إن حماية الانتخابات من المال السياسي تبدأ من هنا: من ضبط ميزانيات الجماعات، وتحييدها عن كل حسابات ظرفية، لأن ديمقراطية المال تقود إلى فساد النتيجة، وفقدان الثقة، ووأد التغيير من مهده.

الكاتب : نورالدين زوبدي - بتاريخ : 29/09/2025