مَقاطعُ من زمن مبعثَر ومنظور، وآخر مطمور

أحمد المديني

1
لماذا نكتب المقطع؟ هل لأن الزمن متقطع؟ الرؤية ناقصة وضيقة؟ الكائن تقلّصَ وضؤل؟ الكائن هزُل من قهرٍ وحرمانٍ أم من حاجاتٍ ممنوعة، وكلُّ إنسان هو من ذوي الاحتياجات الخاصة؟ هل لأن الشيء قليلٌ ومحدودٌ لا يمكن تقاسُمه؟ أم لأن الذين بلعوا كل شيء ما أبقوا لغيرهم إلا ظلال الحرمان يتمرغون فيها ويَحْثون التراب فوق الأرض تحت اللحد؟ أم، كما قال النِّفّري، وأنا لست من هواته من شدة تكالب العاجزين على كلامه ترياقا لكبتهم؛ قال:» كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»؟ لو ملكت أقلّ جواب لصُمت عن الكتابة والكلام.
2
في زمن بَعُد كثيرا عنّي ـ عن جيلي ـ لم نكن نَعُدُّ الأيام، ولا ممن يضعون ساعاتٍ في المعاصم، كنا نحن هم الوقت، اليوم يتزيَنون بأفخم الساعات ويطحنهم الخوف وقلوبهم تدق كالطبول جزَعاً من الموت. كنا..لا أستطيع الإفلات من جاذبية الماضي، فأنا جزءٌ منه وهو مستمر في الحاضر، إنه ليس القِدمُ المتهالك، الخلايا الميتة، جثثٌ متسلطةٌ في شكل أحياء؛ كلاّ، إنه ليس صفة الطلول التي نعاها أبو نواس داعياً إلى معاقرة ابنة الكرْم، بل السبيل الذي مضينا فيه بين الرّحم والوصول في بيداء وشقاء وسعادة العمر كذلك ولو إلى السراب.
3
فكروا معي قليلا ربما اقتنعتم أني أتحدث،أكتب، خارج مدار الحنين والاستغراق في ما مضى وإن وُجدت من نسغ المضي. حديثي عن الماضي إلحاحٌ على ما لم يتحقق ويكمُل. حين يقول أبناء جيلنا بمرارة أنّا خسرنا رهاناتنا وأُجهضت مشاريعُنا بقوى قاهرة، فنحن لا نحزن، وهذا شعور طبيعي، وإنما لنذكّر بأن المستقبل سُرق منا واغتُصب، وما ينظر إليه الرابحون شماتة خسراناً لنا وانتصاراً لهم وعلينا هو الماضي بالذات، التفِتوا إليه واستحضروه ولو على الورق وسترون أيّ خسارة فادحة وأيّ هزائم منكَرة، وكم رجالٍ أضعنا ليوم كريهة وسِداد ثغر!
4
لا يعضّ الكاتب أصابعه من الندم. لا يبكي. لا ييأس. وبالطبع، لا يستخذِي أو يتواطأ، وإلا فهو وغد نذل وشحّاذ. ينخرط في الكتابة والحياة، هما مشروع واحد، مراهناً دوما على الربح، إنه رابح سلفا إن أخلص لنفسه فقط، ما يتبع ذلك كسب كلّه، جلّه، وبعضُه أجلّه. يكفي أن يكون ابن بيئته وشعبه، بصيص نور يهديه، وقضية يقبسها من فوهة بركان، الكلمات الحِمم واللغة النبع وخياله قرصان فوق صهوة خيول الجان قبل الإنسان. لماذا الشعراء هم أنبياء الأرض منبوذون في كتب السماء؟ لأنهم يقبضون على الجمر ويعصَون ويخلقون من جنون.
5
لذلك هم قِلّة، دعك من غُثاء السيل، ويا ليل يا ليل، ونثر مِسخ لا نظمٍ ولا ذيل. ركامٌ هراء، وصراخ أجوف هواء، قد ضاع في سير القافلة السراب والحُداء. الشعر خبز الروح، مثل الخمرة وأعذب، أشدُّ سُكرا وأملحُ ثغرا، وأطرب. لذلك نناشد النعيق والنقيق والقبيح عن وجهنا اغرُب. كما ظللنا نناشد المهرّجين أوقفوا رقصَ القردة، واستعارة قامات الفرسان هي وصولة
المردة. الأقنعة ذات يوم تتمزق، ومساحيق الزينة على الوجه الدميم لا محالة تتشقق. ثم ماذا، الويل لشعب يُضيع وجهَه، صوتَه، لغتَه، خيلُه باركةٌ وللبغال سروج؛لا هو شرق ولا غرب.
6
لو ملكت بارقةَ أمل ضد الفناء لصُمت عن الكتابة والكلام. راسلني صديق، دمث الخلق ومحبٌّ للأدب لبيب. أقرضني قرضاً حسنا يتابع ما أكتب وينوّه بالإخلاص ومناوشتي للمساوئ نشداناً للإصلاح ويستحسن العبارة. ثم يصارحني، ولكنك أحيانا تلسَع وتغمِز من قناة القوم حتى اللذع، بينما هم يحبون الشائع ولا يفهمون كيف هناك من يغضب، وتواصل بالكلمات وحدها مثل دون كيخوطي ديلا مانشا فورة ما تظنه الصواب، بينما بأيديهم الحل والعقد والعقاب. لم يقلها، لكني كلما غمست قلمي سبحت في دمي، ولسان حالي ليس بيني وبين الحرية حجاب.
7
من شبّ على شيء شاب عليه، على سبيل المثال لا الحصر. أعيه كلاما بات فاقدَ الصلاحية. الصواب من شبّ على شيء نسِيَه وتنكّر له وطوى كشحه. الحداثيون الملفقون يتندّرون على الآباء الكلاسيكيين. يُطلون وجوههُم بأصباغ المصطلحات، تراهم يقلدون طيران النوارس من غير أن يمتلكوا صبرها قبل الانقضاض على سمكة في البحر، ينحنون رُكّعاً سُجّداً لمن يعطي أكثر ويُلبّون واق واق،ويصخبون بفجور: إنكم أثقلتم على كاهل التاريخ ومنذ اليوم نحن لها، صُناّع اليوم ومتعهدو خدمات غد، لا آباء لنا، قتلناهم وتزوجنا أمهاتنا سفاحا علَناً، وماذا بعد؟!
8
أُسأل دائما هذا السؤال ويعييني الجواب لأني، بالنسبة إلي،عاجزٌعن تلفظ بداهة الفطرة. الروائية التركية أليف شافاق أنبهُ وأشجعُ منّي عن سؤال: لماذا تكتبين؟ أجابت:» إننا قي بلداننا لا نملك ترف عدم الخوض في السياسة. خذ الحرية ـ هي أمّ كل شيء ـ هل يمكن لكاتب أن يعيش ويكتب بدون الدفاع عن هذا الحق، إنه يدافع عن حقه قبل دفاعه عن الآخرين ومعهم». لا يحتاج هذا التصريح ظاهراً إلى نقاش، خلافا لأصحاب الرؤوس الخشنة، المعلقة في مشنقة مع وقف التنفيذ، غير أن آخرين ـ أنظر إليهم كالسّيل العرم ـ يدافعون عن نرجسيتهم المقرفة.
9
في الغابة غول، في المدينة تنّين. مخالبُه تطول لا يعرف ما الحنين، ويصطبر طويلا على الجوع والقهر والبطش يئنّ بخفوت ولا يُسمع له أنين. في الغابة تركض ثعالب وتتلوى ثعابين، بينما في المدينة قصف صفقاتٍ وعلى الخد الأيسر صفعات، والبشر المسمّى الشعب غائب وهو فعلا مشدود إلى الغيب، وفي التلفزيون والصحف والمقاهي والإدارات والأسواق وكواليس الأحزاب والوزارات، وفي مخادع الأزواج أيضا وما تبقى من مدرّجات الجامعات وعتمة تلك الدهاليز نكد كثير وهمٌّ كبير محشوٌّ في أنابيب الطنين؛ فمن يكشف الغُمّة عن الأمة!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 06/07/2022