« نحن أدرَى وقد سألنا بنجد/أطويل طريقنا أم يطول»

أحمد المديني

1
أنا مثلُك لا أعرف كلما هفت نفسي للكتابة أو غلا وجداني واضطرمت مشاعري، وضاق بي جسدي عن امتلاء روحي والتهاب غضبي، ساح في دمي وعلى شفتي فاض شعرُه، يسبقني إلى مُهجتي يمتص منها الرحيق، وحين يراني ألاحقُه عبثاً في كل طريق، يرنو إليّ بحدب عينِه تقول يا بعضي على رِسلك، أبوك لي أخٌ شقيق، وشعري نبعٌ للعرب جميعا فلا تعتب.
2
إني أتحدث عن جدي المتنبي. أرفض جميع القيود إلا أن أتعداه أو يُعتدى على اسمه وتراثه. هو عندي وشعرُه بمرتبة السيادة، وهذه لا يجوز التحرّش بها أو التطاول عليها لا ثمن لها تُفتدى. أنا مثلك أهبّ دفاعا عن شعرة واحدة من وطني إذا مُسّت وكلمة مفردة من لغتي وإبداع أمتي لو عبثَ بها العابثون، تكاثروا لا يرعوون لا يستحون، مقرفٌ، يُزهِق الروح لا يُطاق!
3
أعرف أنك من شدة الجوى لا تفارق هواه، وإن اشتد بك شوق هرعت إلى شوقه عسى لقياه. أعرف وأحار كيف يتم فيك الحلول، وقد صرنا الطلول، تتبعه تخاف أن تفقده بينا يسري فيك جناه. مثلك طويلا تلعثمت في تهجِّي اسمِه. أخشى أن أجرح الحرف أو أخدش أرضه فكيف بسَماه. يقيني كلما تكتّمتُ وتبتلتُ وتهجّدتُ به معه فيه منه إليه نحوه قربه علا وتبجّل بهاه.
4
أنا مثلك مذ اكتويت به بها صرت أطوف بالنار. لا أبالي إذ أمشي بقلبي وأجدف من فُلك اغترابي. ألوِّح للغادين إليها خذوا معكم ولعي بها، انشروه شراعا تبتّلوا بها بالليل والنهار. مثلك مذ رأيتها لا أعرف كيف أسلوها ويْحِي كيف أدركُها ووعدُها ممعنٌ في الهروب. تقول لي لا حيلة ما دامت شمس العرب شروقها هو الغروب وشعوبهم دَمِيت ووزنُهم ذرّة لغبار.
5
..فأحتاج إلى وقتين، أن أحضُر فيك وأحترق بك؛ وأن أعود فأجمع رمادي جمري منك يتذكرك. لذا كلما توهّج في الأفق شرقٌ، والتمع في محيّاك وعدٌ وبرقٌ، أبادر أصلّي ركعتين، وأسأل بحرقة أنا في أيّ الوقتين، الماضي الذي زفكِ فيه الله عروسا فاتنة للأنبياء وأسرى إليك بخير المرسلين، أم الحاضر المثخن بالهجر وطعن الأشقاء، سأمشي إليك فهل من يقين؟
6
ربما لا أحتاج إلى أكثر من حفنة ماء أتوضأ بها كي أتطهر من نجس الكذابين وأدران سماسرة جميع الأوقات. ولن أنتظر أن تصفو السماء لأرى وجهك تناوبت عليه الخدوش ومع كل نظرة من الأصفياء بالحب يبرأ ودون مسخهم وتراتيل الدجل نزيد بُعداً عنهم جدا نحن منهم براء. وإذ أخاف أن أتيه تبّاً توَّهُونا يُسعفني أحمد دحبور:» فليخرج الماء الدفين إليّ وليكن الدليل».
7
قابلت دحبور ابن الكروم سليل فلسطين المرة الأولى في البصرة. أظن في نهاية السبعينيات ذات مهرجان مربد عظيم بجانبه أساطين الشعر يومئذ، وكنا نصرخ بالقضية ملء الفم والجوارح والأرض المغتصبة مطوية في الجوانح وهو ملء البراءة ورقة الصوت وحلاوة العينين ينشد:» يا كربلاء تلمّسي وجهي بمائك تكشفي عطش القتيل وتري على جرح الجبين».
8
كنت يومها في دوخة ذاتي فصرت في دوخَتين ولمّا أبلغ بعد الثلاثين، بينما هي مبحرةٌ في الأشواق يجدف العشاق إليها بالتفاعيل والقوافي والهتاف؛ وفي بيروت ميقات مجزرة صبرا وشاتيلا رأيتها بأمّ العين رِمَما وبقايا أشلاء، وعلى جدار في المخيم كُتب بالدم، دم طفل لا شك في الرحم، كتب الإسم بُترت منه الأعضاء فقرأت(ف…ين) لعلها هي، دمها إذن فلسطين!
9
لكني لم أعد مثلك يا رفيق أمس. اختلفنا في الطريق والصوت والكلمات. أنت عندك كلّ شيء مات، فلم تجد غضاضة في أن تكشط جلدك وتبيع روحك ولو بشروي نقير وتصفّي في المزاد المفتوح حساب ما فات. لأذلّ عَرضٍ لا تخجل هات، وجهك بلا ملامح، بيعٌ وشراءٌ كسائر الصفقات. هل تذكر هتافنا معه(بالروح بالدم نفديك يا عمر)؛ مات قرير العين ولم يبع فلسطين.
10
قد تفهم قد لا تفهم، أنت وكثيرٌ مثلك ما عاد يحزن لهذا وغيره أويغتمّ، شيءٌ واحدٌ لا يفلت من جعبته هو أن يغنَم. ستضحك عليّ وجمعك لو قلت لكم إن الحُر وإن أثقل ظهره لا يركع، ستردون بنقيق واحد، مهلا، سترى، ولسوف تندم. على ماذا؟ لم يبق ربح ولا خسارة. الجبهات أغلقت، والمعارك انتهت، ووجه الرب ذو الجلال والإكرام جعلوا له أربابا، علام بعد سأندم؟!
11
ربما آخر ما في الجراب زادُ المجاز، لأكمل لو امتد بي قليلا خطو الطريق، بعد أن محوت وجهك يا رفيق. لذا ترى كتابتي تنساب وتتعثر بين الحصى وتتلألأ بالعقيق. لم أعد قادراً على البوح والغضب بتلك الكلمات الفاضحة، باللغة الجارحة، وورائي عُواء وأصوات الندابات النائحة؛ مذ نعومة جنوني وأنا أهذي بالاستعارات والبلاغة أقوى من الصفاقة سيفٌ ورحيق.
12
هي ما يوصلني ناجياً شاديا ًشاهداً على ما تفعل بالأحبة الأشواق، إلى جدي أبي الطيب المتنبي عنده جوامع القول سيد القوافي، ربُّ الكلم، مقفى وموزون كما ينبغي لشعر الفحول أن يكون. قصدته يا سميِّي، طريقي الآن إلى فلسطين، دُلني وخفِّف عني، فلبّى من غياب:» نحن أدرَى وقد سألنا بنَجدٍ/ أطويلٌ طريقنا أم يطول/ وكثير من السؤال اشتياقٌ/ وكثير من ردِّه تعليل».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 20/07/2022